مقالات ودراسات » استراتيجية أميركية أوسع لمواجهة إيران خارج العراق

تواصيف المقبل* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 10/1/2020
اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية على مر تاريخها في توطيد نفوذها وهيمنتها على علاقاتها المتينة مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ وكان ذلك لما تتمتع به تلك الدول من موقع استراتيجي وجيوسياسي مهم بالنسبة للمنافذ المائية والبرية، وامتلاك مقدرات نفطية ومالية هائلة. وهذا ما يُفسر كثرة النزاعات التي مرت بها المنطقة والتي تكاد أن تكون الأطول عمرا في التاريخ الحديث.
على الرغم من أن سياسة توازن القوى التي تبنتها الولايات المتحدة قد أثمرت في كثير من الأحيان، إلا أنها أخفقت في أحيان أخرى، فمثلا، كانت استراتيجية الفوضى التي أدت إلى إسقاط النظام العراقي غير مجدية ولم تصب في صالح توازن القوى بين دول الشرق الأدنى. بل على العكس، أدى إسقاط نظام صدام حسين إلى انهيار المؤسستين العسكرية والأمنية في البلد، وفتح الباب أمام ظهور الجماعات الإرهابية المختلفة والتي كانت تتخفي في بداية الأمر تحت رداء المقاومة العراقية، حيث حظيت بدعم شعبي واسع يرفض الاحتلال الأميركي بكل صوره وأشكاله.
وبالحديث عن الهيمنة الإيرانية التي تواجهها المنطقة وما تمثله من تهديد على المصالح الأميركية، يبدو أن الولايات المتحدة قد تعلمت الدرس من النموذج العراقي ولن تسعى هذه المرة إلى توظيف سياسة الفوضى مرة أخرى. وفي حين يعتبر خيار اسقاط النظام الإيراني من ضمن الخيارات المتاحة لدى الإدارة الأميركية وصُناع القرار هناك، إلا أنه خيار بعيد المنال، بسبب حجم وعمق الأذرع التي كونتها إيران على مدى عقود بمساندة منقطعة النظير من أجهزة مخابرات بعض الدول العظمى وتلقي الدعم الدائم، وكذلك إمكانيات النظام الإيراني التي لا يستهان بها عسكريا.
كان قتل قاسم سليماني خطوة جريئة وغير متوقعة، ولكن يبدو أن الولايات المتحدة قد تعلمت الدرس من النموذج العراقي. ففي ظل وجود مزيج من التهديدات والمحاولات الواضحة لتهدئة التصعيد، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى إلى تجنب استراتيجية إثارة الفوضى كأداة لمواجهة النفوذ الإيراني. فالفوضى قد تُنذِر بإعادة ترتيب القوى العُظمى الفاعلة في المنطقة، وقد تكون هذه القوى هي الصين التي قد تلجأ إلى استخدام قواها الاقتصادية الناعمة -وحتى الصلبة- إذا تطلب الأمر.
لذلك، يبدو أن الخيار الواقعي والناجع الذي يمكن أن تتبناه الولايات المتحدة حاليا هو إضعاف النظام الإيراني عن طريق ضرب اقتصاده. ويبدو أن الإعلان الأخير عن فرض عقوبات إضافية على إيران هو بمثابة عودة إلى هذا النموذج. ومن ثم، أثبتت سياسية الإدارة الأميركية الحالية التي عملت على تجفيف منابع العملات الصعبة التي يحصل عليها النظام الإيراني نجاحها، حيث استهدفت الولايات المتحدة النفط بشكل مباشر، وهو بلا شك المصدر الرئيسي الذي يغذي خزينة طهران بما تحتاجه لتصنع تأثيرا ممتدا ومثيرا للجدل في المنطقة. وفي الوقت نفسه، شمل تأثير العقوبات قطاع الصلب والحديد والألمنيوم والنحاس، وهو أكبر مصدر للربح من الصادرات غير النفطية لطهران.
كان لاستهداف الاقتصاد الإيراني تداعيات حقيقية على استراتيجية إيران الإقليمية الرامية إلى تعزيز نفوذها. فمن دون توافر العملة الصعبة ستصبح إيران غير قادرة على تسديد فواتير حلفائها ودفع رواتبهم وصناعة دعاية إعلامية ماكرة تساهم في تثبيت أجندتها الإقليمية المناهضة لحلفاء أميركا في المنطقة.
ومع ذلك، إذا اختارت إيران الاستمرار في الانتقام من القوات الأميركية في العراق أو في أي مكان آخر في المنطقة، فقد يدفع ذلك الولايات المتحدة لتغير سياستها الحالية. وعلى الرغم من أن النزاع بين الولايات المتحدة وإيران قد استقر منذ فترة طويلة عند حدود معينة، فإن حادثة اقتحام السفارة الأميركية في بغداد، وقبلها الهجوم على قاعدة “كي وان” في كركوك وقتل مدني أميركي وإصابة خمسة آخرين، دفع الولايات المتحدة إلى التصعيد والقيام بقتل الجنرال الإيراني قاسم السليماني. وردا على ذلك، توعدت إيران بالانتقام لمقتل السليماني، وبالفعل قام الحرس الثوري الإيراني باستهداف قاعدة “عين الأسد” التي يتمركز فيها جنود أميركيون بالصواريخ. لكن من غير الواضح ما إذا كانت تلك الحادثة ستكون الأخيرة في سلسلة الهجمات التي قد تشنها إيران ضد الولايات المتحدة.
مما لا شك فيه أن الرد الأميركي القادم على الهجوم الإيراني الأخير على قاعدة “عين الأسد” هو ما سيحدد شكل وطبيعة المواجهة القادمة بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة. وبذلك، فإن عودة الولايات المتحدة عسكرياً واقتصادياً وبقوة إلى المشهد العراقي يمثل ضرورة حتمية لمنع سقوط البلاد -إن لم تكن المنطقة برمتها- تحت النفوذ الإيراني. وقد حان الوقت أيضا لأن تقوم الولايات المتحدة بمواجهة النفوذ الإيراني بشكل أكثر فعالية من خلال اتباع أساليب أخرى غير العقوبات، من بينها العمل على تقوية علاقاتها بشركائها الإقليميين للحد من النفوذ الإيراني من دون الدخول في مواجهة مباشرة -خاصة في تلك البلدان التي يقاوم فيها المدنيون النفوذ الإيراني.
في هذا الصدد، يمكن أن تساهم الولايات المتحدة في حل الأزمة السورية من خلال تخليها عن سياسة إدارة الملفات الإقليمية بالوكالة والتي من شأنها أن تسمح لقوة أخرى مثل روسيا وإيران وتركيا بملء الفراغ، ومن ثم تهميش دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتهديد مصالحها. كما أن تلك السياسة قد تودي إلى تفاقم الأزمة إلى أبعد في اتجاه غرب سورية، حيث الجولان وما بعد حدودها. ويمكن أن يوفر تجديد الولايات المتحدة التزامها بالاستمرار في مواجهة النفوذ الإيراني في سورية لها العديد من السبل للمشاركة في مستقبل سورية، ويساهم في تأمين مصالحها بشكل أفضل هناك.
أدت التطورات الأخيرة في اليمن أيضا إلى تعظيم الدور الأميركي هناك، حيث عملت الولايات المتحدة بشكل كبير على ضمان محاصرة النفوذ الإيراني هناك من دون الدخول في صراع مباشر. وفي هذا الإطار، يجب أن تعمل الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الأخرى للوصول إلى تسوية للأزمة اليمنية. وقد بدأت تلك الجهود بالفعل، لكنها ستكون أكثر فاعلية مع وجود مشاركة أميركية أكبر. وفي حالة الوصول إلى تسوية، يمكن أن يكون هناك جهد جماعي يساهم في تحييد النفوذ الإيراني في اليمن وإنشاء منطقة منزوعة السلاح على الحدود اليمنية–السعودية تحت مظلة الأمم المتحدة، وستكون هذهِ المنطقة بمثابة حزام أمني بين السعودية واليمن وستقلل إلى حد كبير من المخاوف بشأن النفوذ الإيراني في الطرف الجنوبي لدول الخليج.
وفي حين تعمل الولايات المتحدة على دعم الاستقرار في اليمن وسورية، بعد سنوات طويلة من الحروب والنزاعات، فإن هناك العديد من الفرص التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها توثيق علاقاتها مع حلفائها الملتزمين بمجابهة التوسع الإيراني في المنطقة. ولذلك، يجب أن تعمل الولايات المتحدة، بالتعاون مع المملكة العربية السعودية، على تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران حتى يتحقق التوازن المنشود الذي يضمن أمن المنطقة ويحمى مصالح الولايات المتحدة على السواء. كما يجب على الرياض أن تُفعِّل كافة إمكانياتها المُخابراتية والتي لا تقتصر فقط على جمع المعلومات البدائية، وإنما على تحليل وتفسير الواقع وما يدور في المنطقة لرسم استراتيجية بعيدة المدى.
أخيرا، إذا كانت هناك حاجة إلى تكتيكات جديدة ضد إيران تساهم في ضمان رؤية الولايات المتحدة لتوازن القوى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهناك العديد من الفرص الإقليمية المتاحة التي يمكن من خلالها مواجهة التوسع الإيراني بشكل مباشر من دون استهداف إيران نفسها. ولن تأتي استمرارية مرونة العلاقات وفن التوازنات بين الولايات المتحدة وحُلفائها في المنطقة إلا عن طريق قيام الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بإيجاد حلول سياسية جادة، خاصة في الدول التي ينشط فيها وكلاء إيران مثل العراق، واليمن، وسورية، ولبنان.
*كاتبة وصحفية تركز بشكل أساسي على القضايا السياسية والأمنية. لديها خبرة في التاريخ السياسي/ العسكري

الغد الاردنية

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد