خاص » نماذج تنموية معاصرة: سنغافورة نموذجاً - يحيى دايخ

خاص ميديا اوبزرفر


أثبتت تجربة سنغافورة أن المساحة ليست عاملاً هامًا في نهضة الدول، حيث نجحت في أقل من أربعة عقود بدءًا من الستينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة في تحقيق قفزة تنموية شاملة. فتلك الدولة الحديثة التي تبلغ مساحتها قرابة 648 كم2، وعدد سكانها يبلغ  5,567,301 نسمة (تقديرات يوليو/تموز 2014) فقط بما يعادل كثافة سكانية حوالي 6000 شخص كل كيلومتر واحد، شهدت تحولاً كبيرًا من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة الـ٥٠٠ دولار، الى بلد متقدم أغلب شعبه متعلم ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن ٧٠ ألف دولار، فعندما يزيد دخل الفرد ١٤٠ ضعفًا في غضون ٥٠ سنة، فهذا إنجاز يستحق الدراسة عن كثب لاستنباط مواضع القوة الحقيقية لهذه التجربة وكيفية الاستفادة منها.

الديموغرافيا والموارد الطبيعية

تمتاز سنغافورة بتوليفة عرقية يطغى عليها العرق الصيني الذي يمثل غالبية السكان 74.3 % بجانب أعراق أخرى كالهنود 9% والماليزيين 13.4 %، واخرين 3.2% كما أنها تضم خليطًا سكانيًا متنافرًا من الرحالة من الدول المجاورة لها مثل الصين وماليزيا والهند والعديد من الأقليات الآسيوية والأوروبية، استطاعوا جميعأ التعايش في سلام رغم اختلافاتهم العرقية والدينية، وذلك لأن الدولة سعت لإيجاد هوية واحدة استطاعت ان تجمع الكل.

سنغافورة كدولة تندرج ضمن الدول الفقيرة في الموارد الطبيعة (بترول، معادن)، فهي أرض لا يتوافر فيها أي نوع من المصادر الطبيعية التي يمكن الاعتماد عليها لتطويرها، لكن ذلك لم يعق خطواتها الطموحة نحو التنمية بقيادة رئيس وزرائها "لي كوان يو"، فاستطاعت أن تضع نفسها على الخريطة كمركز مالي ولوجيستي عالمي، مع التركيز على الصناعات التكنولوجية، مما أدى إلى زيادة الإنتاج ودخل الفرد بشكل كبير لتصنف ضمن النمور الآسيوية الأربعة بجانب كوريا الجنوبية، وتايوان وهونج كونج، حيث 90% من نمو الاقتصاد العالمي يحدث في قارة آسيا.

الموقع الجغرافي 

تتألف جمهورية سنغافورة من جزيرة رئيسية، بالإضافة إلى 59 جزيرة صغيرة متناثرة عند الطرف الجنوبي الشرقي من شبه جزيرة ملقة، أما جزيرة سنغافورة فتنفصل عن ماليزيا بمضيق (جوهر) عند الشمال، وعن إندونيسيا من الجنوب عبر مضيق سنغافورة، وتبلغ مساحتها الإجمالية 648 كم2، وهي ذات موقع استراتيجي حيوي باعتبارها صلة وصل بحرية بين المحيط الهندي غربًا وبحر الصين شرقًا. أما مدينة سنغافورة، القائمة عند الطرف الجنوب الشرقي للجزيرة فهي واحدة من أهم المراكز التجارية في جنوب شرقي آسيا، وهي تعتمد على مياه ستة من الأنهار الصغيرة تستخدم أيضًا في نقل البضائع.وبرزت أهميتها اللوجستية عندما أقامت شركة الهند الشرقية التابعة للإمبراطورية البريطانية أحد الموانئ بها عام 1819، في نطاق التوسع الأوروبي في آسيا من أجل الأسواق والموارد الطبيعية. وفي أواخر الستينيات عندما بدأت شمس الإمبراطورية البريطانية في الأفول تم تقليص القواعد العسكرية البريطانية، بما في ذلك قواعدها في سنغافورة، وخلال هذه الفترة كانت قد بدأت المطالبه المحلية باستقلال سنغافورة، وأعلنت الاستقلال عن بريطانيا من طرف واحد في أغسطس عام 1963.

الاستقلال والقرار السياسي

وكانت الشرائح التي طالبت بالاستقلال مكونة من المثقفين الذين تعلموا في الجامعات البريطانية ومجموعة من اليساريين من المتعلمين في الصين وغيرهم، واشتركت هذه الشرائح في توجهها الاشتراكي، ومنها تأسس حزب العمل الاشتراكي عام 1954، وحاز على الأغلبية البرلمانية عام 1959 والذي سبقه الاستفتاء على انضمام سنغافورة إلى ماليزيا عام 1953.
غير أنه في 9 أغسطس 1965 صوت البرلمان الماليزي بالأغلبية على طرد سنغافورة من الاتحاد بسبب العديد من الاختلافات الأيديولوجية، ثم أعلن البرلمان السنغافوري الانفصال وإعلان جمهورية سنغافورة البرلمانية المستقلة بعدها بعدة ساعات(1)، حيث اصبح "يوسف بن إسحاق" أول رئيس لها، و" لي كوان يو" أول رئيس وزراء.

من الصعب الانخراط في فهم التجربة السنغافورية بدون التعرف على قائد هذه النهضة الاقتصادية والاجتماعية ورئيس وزرائها على مدار ثلاثة عقود "لي كوان يو".

وفي إطار توثيق هذه الرحلة التي يصفها "لي كوان" بأنها رحلة وطن بأكمله وليست تجربة شخصية، أصدر كتابه في عام 2000 بعنوان "من العالم الثالث إلى الأول.. قصة سنغافورة"، والذي يعتد به حتى الآن كمصدر مهم في توثيق الخطوات التي اتخذتها هذه الأمة نحو التقدم والتنمية. كان "لي كوان" قد تلقي تعليمه الجامعي في جامعة كامبريدج ببريطانيا في القانون، ثم عاد إلى سنغافورة وعمل محاميًا لعدة سنوات، بعدها أسس حزب "العمل الشعبي" في منتصف الخمسينيات، ثم فاز الحزب بانتخابات رئاسة سنغافورة عام 1959، وعين رئيسًا للوزراء وعمره 35 عامًا، وبعد 6 سنوات أعلن "لي كوان" استقلال سنغافورة عن ماليزيا، واستمراره في منصبه كأول رئيس وزراء في جمهورية سنغافورة بعد الاستقلال، واستمر بعد ذلك لمدة 25 عامًا رئيسًا في منصبه كانت خلالها سياسة البلاد الخارجية هي الحياد وعدم الانحياز، وهي سياسة شبيهة بسياسة سويسرا، مع الاهتمام بالجانب العسكري والأمن القومي والاقتصاد وقضايا المجتمع السنغافوري على حد سواء.

وعندما انفصلت سنغافورة عام 1965 عن ماليزيا لم تكن تملك من الموارد الطبيعية ورأس المال ما يمكنها من التأسيس لنهضتها، إلا أن "لي كوان" بذل العديد من المحاولات للاعتماد على التصنيع التكنولوجي والسياحة واللوجستيات واستقطاب الاستثمارات الأجنبية في هذه المجالات التي كانت تبحث عن عمالة رخيصة وقرب من الأسواق، خاصة أن هذه الاستثمارات لم تكن مرغوبة في تلك الفترة من قبل الدول المحيطة بسنغافورة كالصين والهند وإندونيسيا، نظرًا لتوجهاتها السياسية المعادية للرأسمالية بوجه عام، مما أتاح لسنغافورة فرصة ذهبية احسنت الاستفادة منها، ونجحت في تحقيق قفزة تنموية انعكست على معدلات دخل الفرد السنوي لتزداد من 500 دولار عند الاستقلال إلى أكثر من 70 ألف دولار في بداية الألفية الثالثة.

العوامل الاقتصادية

وجدت سنغافورة نفسها بعد انسحاب القوات البريطانية وخروجها من اتحاد ماليزيا تواجه جيرانها كإندونيسيا وماليزيا وهونج كونج والصين وتدخل معهم في مضمار المنافسة الصناعية والتجارية، بل والعسكرية من أجل الحفاظ على أمن أراضيها وردع أي محاولات لانتزاع حرية قراراتها من قبل الدول المحيطة بها. وكانت أكثر مهام "لي كوان يو" إلحاحًا تتمثل في توفير فرص عمل مستقرة لأبناء شعبه بعد الاستقلال، نظرًا لنسب البطالة المرتفعة حينها والتي قدرت بـ10%، بيد أنه كان يؤمن بضرورة تحقيق "مجتمع العدالة الاجتماعية وليس الرعاية الاجتماعية".

ولذلك، سعى إلى الاهتمام بالعديد من المجالات وهي على النحو التالي:

التنمية في قطاع السياحة 

فقد كان قطاع السياحة في مطلع الستينيات هو المسلك الأول أمام متخذي القرار في سنغافورة لإحداث طفرة في معدلات النمو والدخل، حيث كان يوفر فرص عمل ليست بالقليلة، إلا أنها كانت غير كافية لابتلاع حجم البطالة المرتفع، خاصة مع انسحاب القوات البريطانية التي كانت توظف ما بين (40 إلى 50) ألف عامل محلي، رغم نجاح العديد من الإصلاحات الإدارية والمالية ومحاربة الفساد، وتدارك العجز المالي للحكومة، إلا أن هذه الجهود كانت غير كافية.

التنمية في قطاع الصناعة

فكان المسلك الثاني هو قطاع الصناعة، إذ تم إنشاء المصانع والتركيز على الصناعة التحويلية في البداية وتأمين احتياجاتها من الطاقة بواسطة أربعة مفاعلات كهروحرارية يصل إنتاجها إلى حوالي 51.6 بليون كيلو واط ساعة في عام 2016 بينما بلغ إستهلاكها 48.63 بليون كيلو واط ساعة(3)، وقد أقنع "لي كوان" البريطانيين قبل رحيلهم بعدم تدمير أحواض سفنهم بغرض تحويلها للاستخدام المدني. وفي هذه الأثناء ضاعفت سنغافورة من جهودها وقامت بتحسين بيئة العمل وأممت شركات القطاع الخاص التي عانت من نقص في رأس المال أو الخبرة مثل بنك سنغافورة أو خطوط الطيران، ثم عملت على فتح أسواق جديدة وإعادة هيكلة منظومة الاقتصاد بأكملها، لا سيما بعد ظهور أسواق تجارية منافسة ومجاورة، وقد كانت أولى بوادر النجاح لهذه الخطة دخول شركة تكساس انسترومنت في العام 1968 لتصنيع الترانزستور.

ولتعزيز القطاع الصناعي تم تأسيس مجلس التنمية الاقتصادي في الستينيات والذي ساهم مباشرة في بناء اقتصاد حديث ومتطور عن طريق إقامة صناعات وطنية مملوكة للدولة تم إشغالها بأفضل المهارات والقدرات المتوافرة محليًا بعد تدريب العمالة، ويخلو هذا المجلس من أي توجيه أو سيطرة حكومية، فهو مكون من رجال الأعمال والخبراء ذوي الرؤية، واتخاذ قرارات تنموية بناء على مدى الاقتصادية، ورؤاها بعيدة المدى.

تنمية الاستثمارات الاجنبية 

إلا أنه بعد سنوات من التجربة قرر "لي كوان" وحكومته أن أفضل وسيلة لتعزيز الاقتصاد بجانب كل ما سبق من جهود هي جذب استثمارات الشركات المتعددة الجنسيات، لذا كان المسلك الثالث والمكمل للخطوات السابقة وهو اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، فكانت أولى الخطوات في هذا الطريق هي تدعيم بنية تحتية تنتمي للعالم الأول وتستوعب حجم الاستثمارات المرجو اجتذابها في أوائل الثمانينيات. وبالفعل، تمكنت الدولة من إقناع الأمريكيين واليابانيين والأوروبيين من تأسيس قاعدة للأعمال بالبلاد في منتصف الثمانينيات، فتحولت سنغافورة إلى واحد من أكبر مصدري الإلكترونيات في العالم، خاصة مع إصرارها على دخول القرن الجديد بصناعات تكنولوجية متطورة ذات تقنية عالية تسمح لها بالوصول إلى أسواق جديدة تغنيها عن الاعتماد على الصناعات التقليدية التي تعاني منافسة شديدة من قبل الدول ذات الأجور المنخفضة نسبيًا كالصين وباقي دول جنوب شرق آسيا، لذلك لجأت إلى رفع كلفة العمالة الأجنبية في الصناعات القائمة على الأجور المنخفضة لإجبارها على التحول نحو الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، بيد أن هذه السياسات لم تثمر نتائج فعلية إلا في نهاية الثمانينيات، أي بعد عشرين عامًا على الإصلاح الاقتصادي والتعليمي، حيث تعد أحد أكبر مصدري التكنولوجيا في العالم مثل أجهزة الكمبيوتر ومستلزماتها.

تنمية القطاع المالي والخدمي 
أما الخطوة الأخيرة في إرساء هذه الجهود التنموية فكانت دعم القطاع الخدمي متمثلاً في إنشاء قطاع مالي قوي يستوعب كافة التطورات الداخلية وحجم التعاملات البنكية والمصرفية لتلك الاستثمارات الأجنبية الجديدة.. حيث كانت جهود "لي كوان" وحكومته ترمي إلى تحويل سنغافورة إلى مركز مالي دولي من خلال طمأنة المصرفيين الأجانب باستقرار الظروف الاجتماعية والدرجة العالية من البنية التحتية، حيث بلغ عدد المشتركين في الخطوط الهاتفية الثابتة 1983100 مشتركاً، وفي الهاتف الخلوي 8462800 مشتركاً، كما تتوافر خدمة الإنترنت السريعة، وأربع محطات أرضية للإتصال عبر الأقمار الصناعية، وسبع محطات تلفزيونية و18 محطة إذاعية،  وتم تحقيق فوائض ميزانية تؤدي إلى استقرار قيمة الدولار السنغافوري.

وتبع هذه الخطوات إنشاء الوحدات المصرفية الخارجية لتشجيع استقطاب الاستثمارات إلى سنغافورة، مما رفع من نسبة مساهمة القطاع المالي ليصل إلى 27% من دخلها القومي، وأصبح لديها أكثر من 60 مصرفًا تجاريًا، بالإضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الآسيوية وبفوائد تشجيعية، ويوجد فيها أكثر من 700 مؤسسة مالية أجنبية تتخذ سنغافورة مقرًا لها وتتوزع أنشطة هذه المؤسسات على مجموعة واسعة من الخدمات والمنتوجات المالية، كالتجارة المالية والعملات وأنشطة رأس المال والقروض والأمن التجاري وخدمات التأمينات المتخصصة وغيرها، مما أسهم في دينامية الصناعة المالية في سنغافورة.

ففي عام 2004، اختيرت سنغافورة ضمن العشرة الأوائل الأكثر تقدمًا على مستوى الأسواق المالية عالميًا،  ولديها احتياطي عملات أجنبية يتخطى حاجز الـ 60 مليارًا، ومن أبرز شركائها التجاريين الولايات المتحدة واليابان وماليزيا والصين وألمانيا وتايوان وهونج كونج، وأصبحت أحد أسرع مراكز إدارة الثروات نموًا في العالم، حيث أعلنت سلطة النقد السنغافورية (البنك المركزي) نهاية عام 2013 أن حجم الأموال المدارة ارتفع بنسبة 22% في العام 2012 ليصل إلى رقم قياسي عند 1.63 تريليون دولار سنغافوري مقابل 1.34 تريليون دولار سنغافوري في العام 2011.

معدل النمو الاقتصادي السنوي

مرت سنغافورة بالعديد من الصدمات الاقتصادية بدءًا من السبعينيات وحتى الأزمة الأسيوية التي بدأت في يوليو 1997، تبعها انهيار حاد في الأسواق المالية للدول الآسيوية خاصة النمور الآسيوية، إلا أن الاقتصاد السنغافوري استطاع تخطي هذه الأزمة التي أطاحت بمعدلات النمو ليصل إلى 0، 6 في العام 2009، إلا أن هذه المعدلات ارتفعت بعدها لتصل إلى3.6 % في العام2017. وبذلك تكون حكومة "لي كوان" قد نجحت في تحقيق معدلات نمو مرتفعة وجمح معدلات البطالة التي وصلت في العام 2013 إلى 2%، وبمتوسط دخل للفرد يتجاوز الـ80 ألف دولار في العام 2014.

التجارة الدولية واللوجستيات

تلعب سنغافورة دورًا تاريخيًا بارزًا في منظومة التجارة العالمية واللوجستيات بما يماثل دولتي بنما ومصر، فبجانب دورها في تجمع الآسيان(APEC) الذي كانت من الدول المؤسسة له وعضويتها في منظمة التعاون الاقتصادي للآسيا باسيفيك ومجموعة (الآسيان + 3) ومجموعة شرق آسيا، إلا أنها تملك موانئ جوية وبحرية ساعدتها في تحقيق 21 مليار دولار سنويًا كعائدات للخدمات المقدمة في موانئها في مطلع الألفية الثالثة، وساهم قطاع الملاحة بنسبة 7% من الناتج المحلي الإجمالي وتوفير17.000 وظيفة للمواطنين المحليين.

وتضم المدينة الميناء الأشهر في آسيا "ميناء سنغافورة"، كما أنها تحوي 4 محطات لمناولة الحاويات بطاقة إجمالية تصل إلى 20 مليون حاوية حجمها 20 قدمًا سنويًا نتيجة استخدام أحدث المعدات والتدريب المستمر والمكثف للعنصر البشري، وهي تستقبل نحو 70% من تجارة الحاويات في العالم.

ويقوم الميناء بدور كبير ومهم في اقتصاد سنغافورة، إذ تمر به خُمس حاويات الشحن العالمية وخاصة شاحنات إمداد النفط، ويتبادل الميناء سفن البضائع مع 600 ميناء في 123 دولة حول العالم، حيث وصل الى الميناء حوالي 1، 15 مليار طن من البضائع في عام 2005، هذا بخلاف القيام بدور الترانزيت في تزويد السفن المارة بالوقود، وقد اعتبر ميناء سنغافورة في عام 2011 أكثر الموانئ العالمية ازدحامًا. هذا إلى جانب موانئها الجوية حيث تصنف الخطوط السنغافورية كأحد أفضل الخطوط في العالم، واستطاعت سنغافورة أن تجعل من خطوطها ومطارها مجال استقطاب للربط بين الشرق والغرب وأستراليا وأمريكا الجنوبية والشمالية.

التطوير التعليمي والصحي

التعليم
استفاد "لي كوان" من تجربة الدراسة في المملكة المتحدة. وتعد الخطوة الأولى التي انطلق منها هي إيجاد نظام تعليمي متميز وقوي في محاوره المختلفة: المنهج، المعلم، المكان، الأسرة، الإدارة، ثم الطالب كمستفيد من هذا الربط التعليمي المتميز والمتقن.

وقد شكل التعليم المفتاح الحقيقي للانتقال للعالم الأول والمنافسة الاقتصادية العالمية من خلال الاستثمار الحقيقي في العنصر أو الموارد البشرية،  بحيث مكن سنغافورة من استقطاب كبرى الشركات العالمية للعمل فيها نظرًا لحسن تعليم وتدريب وانضباط السنغافوريين رجالاً ونساء.

في العام 1968 لم تخرج الجامعات أي مهندس، أما حاليًا فهي تخرج نحو 20 ألف مهندس سنويًا، إلى جانب المئات من المعاهد الفنية والمهنية المتطورة.

فالتعليم بكامله من المرحلة التمهيدية وحتى الجامعية باللغة الانجليزية، واللغة الرسمية للدولة هي اللغة الانجليزية، وتبقى اللغة الثانية خياراً لكل فئة من فئات الشعب. 

الصحة

استطاعت سنغافورة ترسيخ نظام صحي شبه متكامل، حيث تتمتع العناية الصحية بمستويات متقدمة،  فهناك طبيب لكل 837  مواطناً، وسرير في مستشفى حكومي لكل 269 مواطنًا.
 علاوة على ذلك، طبقت الحكومة إبان خطتها التنموية سياسات رقابية دقيقة على التناسل السكاني لتكون الزيادة في عدد السكان الحالية بنسبة لا تتجاوز 2٪ كأقصى حد للنسل، نظرًا للمخاوف من صغر مساحة الدولة وزيادة أعداد العمالة الأجنبية، لكنها انتهجت سياسات سكانية مغايرة مؤخرًا بتشجيع المواطنين على إنجاب مزيد من الأطفال، حيث ارتفع عدد سكان سنغافورة بنسبة 1.2 %خلال العام الماضي في أبطأ وتيرة له منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك في الوقت الذي تحاول فيه تقليص عدد العمالة الأجنبية، وبلغ إجمالي عدد سكان سنغافورة 4.54 مليون حتى يونيو 2015.

معالجة مشكلة الفقر والبطالة

كان أكثر من ثُلثي سكان سنغافورة يعيشون في أحياء فقيرة، تفتقر الى الصرف الصحي، والبنية التحتية المناسبة، وإمدادات كافية من الماء، إلا أنها بفضل سياستها المحكمة في إدارة مواردها المحدودة استطاعت التغلب على هذه الأزمات لاحقًا.

الإنفاق العسكري وبناء الجيش

وكانت الدولة الحديثة الاستقلال حينها تواجه ثلاثة تحديات رئيسة.

الأول: انتزاع الاعتراف الدولي بسنغافورة وقبولها بشكل رسمي في الأمم المتحدة.

الثاني: بناء جيش عصري قوي يضمن الحفاظ على الأمن والقانون.

الثالث: وهو الأكثر أهمية وصعوبة فيتمثل في بناء اقتصاد وطني قوي في بلد صغير يفتقر إلى الثروات الطبيعية،  وكل ذلك دون المساس بالطبيعة الديمقراطية البرلمانية للدولة.
وجدت سنغافورة نفسها في مأزق استراتيجي عندما قررت بريطانيا إنهاء وجودها العسكري عام 1971 وإغلاق ثكنتها الكبرى في البلاد، واحتج "لي كوان" على ما قررته بريطانيا والمخالف لتعهداتها السابقة، وهدد باستدعاء اليابان لسد الفجوة العسكرية، غير أنه رضخ بعد ذلك للأمر الواقع وقرر الاعتماد على قدراته الذاتية، حيث عمل على تنفيذ خيارات سياسية واقتصادية صعبة تقطع الخضوع للدعم الأجنبي، وتعتمد ركائز التنمية المحلية كوسيلة لتحقيق التطور المطلوب.

واستطاعت هذه الدولة الصغيرة وبالاستعانة بالعديد من الخبرات العسكرية الدولية تكوين الجيش السنغافوري المكون من القوات البرية والبحرية والجوية، والقائد الأعلى لهذه القوات هو رئيس الجمهورية السنغافوري مع وجود وزير للدفاع، ويبلغ عدد هذه القوات مع الزامية التجنيد لأبناء الدولة 71، 600 فرداً.

ارتفع إنفاق سنغافورة على التسليح بنسبة 4% سنويًا ليصل إلى 12.3 مليار دولار سنغافوري في العام  2009 أي ما يوازي 3.35 % من إجمالي الناتج المحلي مقابل 10.7 مليار دولار سنغافوري  في العام 2008، رغم الأزمة المالية العالمية التي كان لها تأثير على معدلات النمو في سنغافورة، لكن هذا يؤثر على مجريات التنمية الاقتصادية كدول أخرى مثل كوريا الشمالية.

مكافحة الفساد

في مجال مكافحة الفساد، تم إنشاء جهاز خاص بالتحقيق في قضايا الفساد ومكافحتها ومُنح هذا الجهاز كافة الصلاحيات في التحقيق والاعتقال واستدعاء الشهود، بالإضافة إلى صلاحية الاطلاع على الحسابات البنكية والذمم المالية الخاصة بالمتهمين بشبه الفساد وكل أفراد عائلتهم أيضا. ويعد القضاء النزيه الذي تم تشكيله الركيزة الأساسية والقوة الداعمة التي اعتمد عليها في القضاء على الفساد، مما ساعده على تطبيق هذه القوانين والسياسات بنزاهة ومصداقية وحزم، وهذا ما جعل نزاهة وشفافية القضاء مثالا يحتذى به عالميا، وباعتراف المفوضية الدولية للقضاء.

وبقي أخيرا الحديث عن الإعلام، فقد تمتع الإعلام بالاستقلالية والحرية، وأعطي الصلاحيات المطلقة للنقد والكتابة والنشر عن الحكومة وشخصياتها بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه، وكان التعامل مع وسائل الإعلام مبنيا على قاعدة النزاهة والشفافية. فمرونة قيادات الحزب الحاكم ونزاهتهم ألهمتهم الثقة بالنفس وعدم الخوف من السلطة الرابعة. ولكن هذا التعامل كان يتسم أيضا بالحزم والمحاسبة من قبل الحكومة. فطالما وقف كوان أمام القضاء رافعاً القضايا على وسائل إعلامية اتهمته بدون أدلة وبدون حجج، وكسب هذه القضايا.

وبهذا يكون "كوان يو" وحزبه من حوله قد نجحوا في خلق بيئة مجتمعية مدنية تتأخر فيها المصالح الفردية لحساب المصالح العامة، وتتغلب فيها النزعة الوطنية على النزعة العرقية والطائفية والدينية، ويتساوى فيها الحاكم والمحكوم أمام القضاء. وهو ما جعل من سنغافورة أرضاً خصبة للاستثمارات الأجنبية والتبادلات التجارية.

الصعوبات التي واجهة خطة التنمية في سنغافورة

المدة الطويلة التي استغرقتها الخطة للتمكن من تغيير سلوك الشعب.

غلاء المعيشة: فهي مرتفعة للغاية في مدينة سنغافورة، وقد وضعتها مجلة Economist  على قمة مؤشر تكاليف المعيشة في العالم. بالاضافة الى غلاء ايجار الشقق (4-7) الاف دولار، وغلاء اسعار السيارات، لكن الحكومة انشأت مواصلات عامة رخيصة.

على صعيد الزراعة لم تسمح مساحة سنغافورة القليلة وندرة المياه بتطوير الانتاج الزراعي، وهي تستورد 93 % من استهلاكها الغذائي من الخارج، وهذا ما جعلها عرضة لاضطراب امدادات الغذاء والاسعار.

الدروس المستفادة من هذه التجربة التنموية الفريدة

1ـ الاهتمام بالتسليح لا يتعارض مع التنمية
ان الإنفاق العسكرى الكبير نسبيًا لم يعق سنغافورة عن تحقيق تنمية مستدامة بالاستثمار في قطاع التعليم وتنمية الصناعات التكنولوجية، ومن المهم أن يكون هناك توازن بين الإنفاق العسكري والاستثمار في التنمية المستدامة.

2ـ مبدأ التجربة والخطأ في تطبيق السياسات الاقتصادية
استطاع "لي كوان" وحكومته باحترافية تجريب العديد من الحلول لأزمات سنغافورة الوجودية من نقص الموارد والمياه وصغر المساحة والبطالة من خلال تنفيذ السياسات الاقتصادية وإعادة تقييم آثارها والرجوع عنها أو تعديلها إذا لم تتوافق هذه الآثار مع النتائج المرجوة سلفًا من هذه السياسات.

3ـ الاضطرابات السياسية الإقليمية لا تتعارض مع التنمية
سنغافورة ليست منعزلة عن مشاكل إقليمها، حيث ولدت من رحم مشكلة إقليمية أخرجتها من التحالف مع ماليزيا على خلفية تهديدات من إندونيسيا وتعصبات عرقية بين مواطنيها، لكن سنغافورة استطاعت أن توازن بين إدارة أجندتها الإقليمية والنهوض باقتصادها المحلي.

4ـ الاستفادة من الموقع الجغرافي
استفادت سنغافورة من موقعها الجغرافي وموانئها المحلية في الربط بين التجارة الدولية من آسيا واستراليا الى اوروبا، ومن تقديم خدمات متكاملة لنقل الحاويات عبر مرافئها وتحقيق اقصى العائدات، وكذلك إستفادت من مطارها الدولي الذي يؤمن خدمات الملاحة الجوية من صيانة الطائرات ومواصلة الرحلات للعديد من شركات الطيران العالمية. وبلغ عدد المسافرين 33290544 مسافراً في عام 2016(3).

5ـ تحقيق مزيد من العدالة والوفاق المجتمعي
نجحت سنغافورة في احتواء زمام العديد من الأزمات الداخلية ذات الطابع العرقي، إلا أنه بمبدأ مساواة الفرص والاهتمام بالتعليم استطاعت زرع هوية وطنية بداخل هذا التجانس الاجتماعي تُعطى لابنائها بعيدة تماماً عن أصولهم العرقية والاثنية.

وحاليا تعد دولة سنغافورة من الدول المتقدمة جدا بنسبة بطالة 1%، جواز سفر السنغافوري من أغلى جوازات السفر، واصبح متوسط دخل الفرد الان 85000 دولار امريكي سنويا، ما يوازي حوالي 7000 دولار امريكي شهريا، الناتج القومي 300 مليار دولار امريكي لـ 6 مليون نسمة، رئيسة دولة سنغافورة امرأة اسمها حليمة يعقوب، متزوجة من رجل ماليزي من اصل يمني،  منذ توليها الحكم للان زاد دخل سنغافورة 2 ترليون دولار امريكي، انجزت ما يقارب 10000 مشروع عملاق، نسبة الفساد الان صفر، شطبت جميع الضرائب على المنتجات السنغافورية، لتصبح زيادة الدخل القومي 5 ترليون فائض. (4)

من هنا يتبين لنا نموذج لدولة تتشابه في اغلب صفاتها مع " الكيان اللبناني"، من حيث المساحة الجغرافية، والموقع الجيوبولوتيكي، وعدد السكان، وبدل التنوع الديموغرافي الاثني والعرقي، وتنوع ديني طائفي، مع قلة الموارد الطبيعية، لما يمكن ان تصبح دولة مثل لبنان في عداد الدول المتقدمة، اذا توافرت لدى السلطة الحاكمة ارادة التنمية والنمو والازدهار، والتغلب على المحاصصات الطائفية، والفساد وسوء الادارة، والاستقلالية السياسية، بالاستفادة من موقعه الجغرافي بغض النظر عن الاضطرابات السياسية المحيطة به، في تحقيق العدالة الاجتماعية،  والوفاق المجتمعي، ووضع سياسات اقتصادية منتجة وسياسات مالية وضرائبية عادلة تراعي الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل، ونظام قضائي مستقل وشفاف، والاهتمام بالسياسات التربوية والتعليمية من خلال وضع خطط للتعليم الموجه (أكاديمي ومهني) بناء لاحتياجات التنيمية الاقتصادية، مع عدم اغفال الخطط الاسكانية في دعم الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل من الشعب اللبناني.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد