مقالات ودراسات » إيران العاقلة وإدارة الأزمات


statascii117e_300
عبد الله زغيب


حاولت النخبة الايرانية الحاكمة، بمن تبقى منها، طوال السنوات الاولى التالية للثورة، اقناع الإقليم القريب وكذلك العالم بأنها تنوي البقاء طويلا، وأنها لا تعمل على تأسيس حاضنة جديدة للجنون في قلب الشرق القديم، المنهك بأنماط الكيانات &laqascii117o;المارقة". حاولت الإيحاء بأنها تعمل على إعادة إنتاج نموذج إيراني قوي، إنما مبني على أسس عقائدية خاصة بها، على ألا تتضارب عملية ادارة الدولة &laqascii117o;العقائدية" هذه مع المصالح الحيوية والتاريخية لإيران &laqascii117o;القديمة" بمعزل عن تحالفاتها، وأن تنشط السياسة الخارجية من منطلق الندّ للندّ. وقد شكلت الحرب العراقية الإيرانية، بسنواتها الطويلة، اختبار تحملّ ممتازاً لقدرة طهران على تحييد الملفات وعدم الانجرار وراء &laqascii117o;نزعات" غير مجدية في إنتاج القرار والفعل ورد الفعل. وبرغم ارتكاب الايرانيين سلسلة هفوات أو أخطاء، إلا أن هذه الأخطاء لم تكن على الإطلاق، ومن منظور الامن القومي الايراني، ذات ثقل تاريخي وأبعاد لا يمكن احتواؤها. ففي نهاية المطاف، تحكم شعار &laqascii117o;الموت لأمريكا" بالشارع لعقود، وكان ركيزة اساسية للخطابة السياسية والقيادية في مساجد وحسينيات وحوزات إيران، وبطبيعة الحال نخبتها الحاكمة. لكنه لم يكن يوماً متحكماً بالنسق السياسي الايراني العامل على انتاج خيارات طويلة الامد، أو مرتكزاً لصناعة عدو &laqascii117o;وجوديّ" للثورة الايرانية.

انكسار &laqascii117o;مخلب النسر"
في السابع من نيسان العام 1980، عندما اعلنت الولايات المتحدة قطع علاقاتها الديبلوماسية مع الجمهورية الاسلامية &laqascii117o;حديثة العهد" في إيران، ظن الجميع أن العالم أو على الأقل منطقة الشرق الأوسط، على وشك إنتاج حالة جديدة أو نموذج جديد للدولة &laqascii117o;المارقة". فأميركا القوية والناشطة في ظل الاتحاد السوفياتي المنهمك في حرب أفغانستان، كانت الأقدر على تقديم سلسلة &laqascii117o;عبر" ودروس من أي حادث طارئ يعترض منظومة أمنها القومي، اينما حلت بحريتها وديبلوماسيوها وحتى شركاتها التجارية. وقد كانت القطيعة مع إيران مقدمة للآتي من قرارات &laqascii117o;واثقة" بقدرة الاميركيين على احداث التغيير، انطلاقاً من تفوقهم النوعي وعلى مختلف الصعد. هكذا، أطلقت ادارة الرئيس الاميركي جيمي كارتر عملية &laqascii117o;مخلب النسر"، التي كان يُفترض بها تحرير المحتجزين في السفارة الأميركية في طهران.
العملية التي أدارها الجنرال الأميركي جايمس فوت من على متن حاملة الطائرات &laqascii117o;يو. أس. أس. نيمتز" شكلت بفشلها الذريع مقدّمة لدرس مضاد. حيث أن بقاء &laqascii117o;رهائن" الثورة الخمينية في أماكنهم بمبنى &laqascii117o;ثانوية هندرسون"، وهي السفارة الأميركية المطلّة على &laqascii117o;شارع طالقاني" في طهران، كان مؤشراً أولياً على أن البنية قيد البناء في إيران، لن تكون على الإطلاق مشابهة لتلك التي اعتادتها واشنطن خاصة في جوارها الأميركي الجنوبي. فالأزمة انتهت كما اشتهاها تجار طريق الحرير ووسطاؤه، أي من خلال &laqascii117o;الصفقة"، والتي أبرمت فيما سُمِّي وقتها &laqascii117o;اتفاقية الجزائر" في 19 كانون الثاني 1981، وأُفرج بعدها عن الرهائن رسمياً في اليوم التالي، بعد دقائق من أداء الرئيس الأميركي رونالد ريغان اليمين، وهو الذي ورث كارتر بنسبة كبيرة بناء على نتائج عملية طهران الفاشلة.

اليد القوية الممدودة
شكلت عملية اختطاف طائرة &laqascii117o;تي دبليو إي" الرحلة 847 التي تبنتها مجموعة &laqascii117o;ثورية" أطلقت على نفسها اسم &laqascii117o;منظمة المضطهدين في الأرض" في حزيران 1985 نموذجاً إضافياً للتوتر الأميركي ـ الايراني المنطلق مع ثورة الخميني، لكنها كانت أيضاً مناسبة لترويج مخرجات نوع آخر من الخطابة الايرانية، ونموذجاً اضافياً لما تريده ايران ما بعد التصعيد. فالجمهورية الإسلامية كانت تشن حرباً دفاعية ووقائية داخل وخارج حدودها. وهي كانت أكثر أنظمة العالم وقتها خسارة للنخب والقيادات، مع أعمال القتل والاغتيال الفردية والجماعية، التي طالت غالبية القيادة الأصلية للثورة. إيران كانت قد استبقت حادثة الخطف تلك مطلع حزيران ذاته بدعوة الأميركيين إلى إعادة العلاقات الى طبيعتها السابقة ومد اليد بالمقابل. وجاء ذلك على لسان رئيس البرلمان وقتها الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني أثناء زيارته اليابان. وقد أثمرت العملية في نهايتها اتفاقاً على اطلاق سراح الرهائن وعلى دفعات، مقابل أثمان &laqascii117o;عسكرية" ولاحقاً سياسية، دفعتها إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغن، بدأت بصفقات سلاح أميركي لمصلحة ايران المنخرطة في الحرب مع العراق، من خلال الملياردير وتاجر السلاح السعودي عدنان الخاشقجي. وهي تجربة في نهاية المطاف، أثبتت للأميركيين مجدداً أن إيران لا تبحث عن المتاعب بشكل عام، إنما تعمل على استثمارها. وهي في ظل انفلات الجبهات الحدودية وقتها مع العراق، وكذلك الانخراط البعيد عن الحدود من أفغانستان الى البلقان ففلسطين ولبنان وأماكن أخرى، تسعى لبناء منظومة للدفاع عن مشروعها القائم في ذاك الوقت على ضمان سير عمل الدولة وبقاء القيادة بهيكلية ما بعد الثورة، من دون التفريط بالحلفاء الجدد. ما يعني المرور في حقل الألغام الذي زُرع للإيرانيين في الداخل وفي المحيط منذ رحيل الشاه محمد رضا بهلوي عن البلاد.

الخليج وصناعة الأزمات
النموذج العربي القريب في التعاطي مع إيران اعتمد منذ ثورة الخميني على مبدأ صناعة الأزمة للبناء على رد الفعل. وبرغم أن الدول العربية المطلة على الخليج، باستثناء العراق، كانت خارج منظومة التحرك الإيراني المباشر، إلا أن واقع الأنظمة هناك، المرتكز أساساً على ثقل استراتيجي أميركي، أفضى دائماً الى خطوات تتكامل مع الأجندة الأميركية المقابلة لأجندة إيران بعد &laqascii117o;الثورة". وبهذا كانت بلدان الخليج العربي أكثر ميلاً نحو اتخاذ خطوات غير عقلانية، لجلب إيران الى جبهة توتر ثانية انما في الغرب والجنوب. ويدخل في هذا السياق إقدام السلطات السعودية على قتل مئات الحجاج وغالبيتهم من الايرانيين نهاية تموز من العام 1987، وهي حادثة كانت دليلاً كغيرها من الحوادث على تناقض هائل في منظومة العلاقات الخارجية لدول &laqascii117o;مجلس التعاون".
عملت دول الخليج العربي في العقدين الأخيرين على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الإيرانيين بشكل غير مسبوق. إنما ثابرت في الوقت ذاته على تعزيز آخر لسياسة المواجهة غير المباشرة مع طهران. فالإمارات مثلاً حاولت مراراً فرض قضية الجزر المتنازع عليها مع ايران على أجندات المؤتمرات الخليجية والعربية والدولية. لكنها في الوقت ذاته، كانت الشريك التجاري الأول لإيران في منظومة تجارة الترانزيت والطرف الثالث التي غذّت الاقتصاد الإيراني طوال فترة العقوبات، وكانت أيضاً بوابة أساسيّة لتحويل دبي إلى ما هي عليه من واقع اقتصادي متميّز. وكذا فعلت قطر، الدولة الأكثر حماسة في تأجيج العداء العربي لإيران من خلال جهاز الدعاية القوي الخاص بها. لكنها أيضاً كانت وما زالت الشريك الأول لإيران في أكبر مشروع غازي في العالم، وهو حقل جنوب &laqascii117o;بارس" العملاق. وفي السيّاق ذاته يسجّل التناقض الكويتي في العلاقة مع إيران. فبرغم إيفاد الكويت أول مسؤول خليجي الى طهران بعد انتصار الثورة، وهو نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد العام 1979، وبرغم قوة العلاقات الاقتصادية بين الطرفين طوال العقود الماضية حتى الآن، خاصة في مجالات النفط والكهرباء، إلا أن قضايا معقدة اخرى تحكمت بالمسار العلني لهذه العلاقة، انطلاقاً من اتهام الكويت لإيران بمحاولة اغتيال أميرها جابر الأحمد الصباح في 25 أيار 1985، لتبرير دعمها العراق في حربه مع إيران، وصولاً الى اتهام الإيرانيين بالوقوف وراء ما تسمى &laqascii117o;خلية العبدلي" التي قالت الكويت العام الماضي إنها خططت لارتكاب أعمال عنف داخل البلاد.

الحروب عبر أطراف ثالثة
في نهاية المطاف يبقى التناقض &laqascii117o;المفهوم" إيرانياً سيّد الموقف في العلاقة الإيرانية الخليجية ـ الأميركية، حيث تسعى طهران دوماً لامتصاص الصدمات، وتفريغ &laqascii117o;فائض العصبية" في جبهات اشتباك غير مباشرة مع الخليجيين وحلفائهم، فهي وإن بدت الأقدر على الانخراط في الحروب، إلا ان تجربة الحرب العراقية المنهكة، أثبتت أن أثمان المواجهة المباشرة، قد تطال البنيان الأساسي الذي عملت طهران على تعزيزه لسنوات، خاصة في محاولتها الدائمة لفرض نفسها في المجتمعين الإقليمي والدولي كلاعب أساسي وقوة &laqascii117o;مهذّبة" على استعداد دائم للتفاوض وإبرام الصفقات. وهكذا كانت جبهات اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، ساحة التنفيس الأساسية للاحتقان الإيراني، وهو انخراط لا ينفي رغبة إيران بالتهدئة، إنما تلك المبنية على واقعية أوزان المتقاتلين، وليس فقط على أوزان داعميهم، وكذلك المبنية على الاعتراف بإيران كقوة &laqascii117o;ثابتة" و &laqascii117o;عاقلة" و &laqascii117o;منتظمة" في قلب منطقة مجنونة.
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد