مقالات ودراسات » اللغة العربية هوية أم عقاب؟ جدلية تحفظ الأصل وتُجاري التكنولوجيا

فاطمة عبدالله
لنكن واضحين منذ البداية: ليس القصد من التمسّك باللغة العربية نسف لغاتٍ أخرى والتقوقع في منطق قومي بليد. الغاية أن نعي أهمية المحافظة على الهوية وعدم الاستخفاف باللغة والإحساس حيالها بالنقص.
يمكننا استبقاء 'هاي، كيفك، سافا' الى أبد الدهر، شريطة عدم اعتبار الآخر رجعياً إن حيّاكَ قائلاً 'صباح الخير'. المعضلة في كيفية التفكير، إذ نظنّ كلّ صاحب لسان عربي متخلّفاً يمتّ الى ماضٍ بائس، أو إرهابياً يصدح بالتهديد والوعيد.
نوضِح لئلا يسري الظنّ أنّ التشبّث باللغة عائدٌ الى حسٍّ عروبي يرفض ثقافاتٍ خارج 'الحدود الطبيعية'. تتبدّل الأزمان، وما أمكن التغنّي به سابقاً يصبح اليوم شعاراً ركيكاً. ينتفض بعض الأهل على واقعية الإيديولوجيا القومية في اتجاه المقلب الآخر، فيُلقَّن الطفل الإنكليزية أو الفرنسية لغةً أساسية، فيما تُهمَّش العربية. يسود الذوبان في تقليد الغير وفق مبدأ 'كلّ فرنجي برنجي'، ويقلّص عصر الـ'تشات' وازدحام شبكات التواصل، الرغبة في التدوين بأحرف عربية، ويُسرّعان الاستعاضة عنها بأخرى لاتينية تشي بأنّ المُستخدِم 'كول' الى أقصى تصوُّر. نحاور رئيسة جمعية 'فعل أمر' سوزان تلحوق، ومديرة 'مركز بيت اللغة' ضحى الأسعد، عن السعي الى توعية الشباب على عدم الانجراف الأعمى خلف الثقافة الغربية والتباهي بإنكار العربية، من غير رؤية نقدية وشعور بالمسؤولية.
هوية أم عقاب؟
لا تتوجّه تلحوق الى الشباب بصفتها واعظةً بمآثر العربية ورافضةً أي مساسٍ بها. تُقاربها من غير خطاب تنظيري يتنكّر لضرورة استيفائها شروط العصر: 'ليس لي أن أحاكم شاباً يشعر بالنفور حيال العربية. أمكنني اقناعه بأنّ اللغة ليست كما صُوِّر له، وليست محض فتحة وضمّة وكسرة. لِم أكون له عدواً إن شاء كتابة معقول هكذا: 'Ma32oascii117l'؟ فليكتبها كما يشاء، وإن كنتُ أفضّل عدم الركون الى الحرف اللاتيني. محاربة هذا الجيل تعني تعجيل القضاء على اللغة. المراد استمالته بالتي هي أحسن. لا بأس إن وجد في لغة الغرب ما يشبه تطلّعاته، شريطة عدم الذوبان التام. علينا استيعاب المتغيرات وإدراك كيفية مواكبتها. نريد مدّ اليد إلى جيلٍ نشأ على أنّ العربية لغة رجعية، وإقناعه، بنبرة هادئة، بأنّ اتقان اللغة الأصلية ليس عاراً'. المسألة في النظرة الى اللغة باعتبارها تراكماً حضارياً، يحول دون تفكك الهوية وتعرّضها لهبّات المشارق والمغارب، أو النظرة إليها باعتبارها عقاباً. 'فعل أمر' تهتم بتفسير الصلة بين الفرد ولغته الأم. 'نحمل التاريخ في طيّات اللغة. تلقينها لابنتي يعني أني أحفظُ إرث جدّتي وأمي والمتنبّي. تنقرض الشعوب حين تتنازل عن لغتها. احتلال الأرض يمكن تحريره، أما احتلال الفكر فمحالٌ أن يُحرَّر. أصادفُ مواقف محرجة لأنني أتمسّك بكلمة 'شكراً' بديلاً من 'ميرسي'. ليشعر الآخرون بثقافتي، لا بدّ أن أستعرض إلمامي باللغات. وإلا سيشفقون عليّ. ويستهجنون وضعيتي. لن أُبادَل بالأهمية المطلوبة. وقد يُقال لي باستنكار: 'ليش بتحكي عربي كلّ الوقت؟!'. الأسوأ حين يجيب الطفل: 'ماما ما بتخلّيني احكي عربي!'. إننا إزاء حال مرضية. أنا أمّ لطفلة تسمّي الموزة باسمها: 'بدّي موزة'. تدرك معناها بالإنكليزية من غير أن ألقّنها. لا يفوت الطفل شيء. أدوات التكنولوجيا تزوّده المعلومة، والتلفزيون والمدرسة أيضاً. لا أحول بين ابنتي واللغة الأخرى. ما أسعى إليه هو بناء علاقة مفهومة بيننا. لستُ في حاجة الى تبرير ثقافتي. تخطّينا السؤال أنتَ مع اللغات الأجنبية أم ضدّها؟ ثمة ما هو أعمق. لماذا أرفض أن يكتسب أولادي لغتهم الأصلية؟ أهكذا تكون الحضارة؟ أهكذا نتمدّن؟ طالما كنا أرضاً للمستشرقين وأصحاب الفكر والرؤية. قرأ الغرب علومنا وما أنتجناه من فلسفات. ما لنا اليوم ننساق خلف الفورة، فاقدي الوعي، غير مدركين أيّ المدارك بلغنا؟'.
تصويب البوصلة
مهمٌ ما تأتي تلحوق على ذكره. 'فعل أمر' ليست جمعية ترفع شعار 'المحافظة على اللغة وحماية الحرف'. 'نستفزّ الشباب بلغتهم. إنتَ كول، ونحن أيضاً كول'. في جولتها على المدارس، ومخاطبتها أعماراً تراوح ما بين 10 و17 سنة، تلحظ تجذُّر لغة الانترنت في سلوكهم اليومي. نسألها عن مجامع اللغة ودورها في توليد مجتمع يعي أهمية لسانه. 'تسبّب بعض أستاذة العربية بجعل التلميذ يمقت سيبويه نفسه. هدفنا تصويب بوصلة الشباب في اتجاه الشرق، من غير 'تفلسف' أو تكبُّر. الأفضل أن يقتنعوا بأنفسهم بأنّ العربية ليست للإفراط في الملل. أحبّذ استعمال الانترنت بدلاً من 'الشبكة العنكبوتية'، والـ 'سي دي' بدلاً من 'القرص المدمج'، وإلا لن أُقابَل بأقلّ من هذا الردّ: 'حلّي عنّي وعن لغتك'! المجاراة تقرّب الشباب من اللغة ولا تسيء إليها. سرعان ما سيدركون بأنّ كلمة انتفاضة مثلاً لا مرادف لها وأنّها من تلقائها دخلت التاريخ. يُلام الأهل إذ يستخفّون باللغة، ويتعمّدون المجاهرة بأنّ ابنهم متفوّق في العلوم والفرنسية، وضعيف بعض الشيء في العربية. معلّمة العربية في بعض المدارس لا يُكتَرث بأمرها. ليست المسألة مشكلتنا مع اللغة، بل مع الصورة التي تعطيها للآخر. أرفض أن أصبح نكرة لأنني أتكلّم العربية. لغتنا في غرفة الانعاش، وقليلٌ من الأوكسيجين يصلها. توقّف العقل، وما عاد يربطنا بها سوى بعض العاطفة'.
الحلّ يا سيدة تلحوق؟ نقدّر ورش العمل التي تنجزها الجمعية بغرض التفاعل، وانفتاح وزارة التربية على المساعي الهادفة الى التوعية. بيد أنّ النتائج، كما يبدو، مخيّبة. ندرك أنّ المشاريع لا تثمر من غير مال، والشعارات وحدها لا تحرّك ساكناً. تبتكر 'فعل أمر' حملات تقرّبها في اهتمامات الجيل، وتعطيها عناوين جاذبة ('بحكيك من الشرق بتردّ من الغرب'، 'العربي عَلساني مش عَراس لساني'، 'قلبي عالعربي والعربي من قلبي'...)، ولكن أنّى لليد الواحدة أن تصفّق؟'. العين بصيرة واليد قصيرة، والمعنيون غالباً يكتفون بالتأييد، فما العمل؟ 'ينبغي الحضّ على الإبداع باللغة العربية. علينا السعي في اتجاه شباب خلّاق في المسرح والفنون والصحافة والعلوم والاجتماع. والحل أيضاً في الاقتناع بأننا
أبناء هذا الشرق. في إمكاننا رفض مآسيه وأهواله، أما لغته وهويته فينبغي التمسّك بهما. أخشى أن نندثر يوماً. أخشى أن نُمحَى'.
'أصحابنا' أحد الحلول الممكنة
عرضنا مع تلحوق جروحاً تصيب علاقتنا باللغة، وندوباً تختزل نظرتنا إليها. مع ضحى الأسعد، مديرة 'مركز بيت اللغة'، وموقع 'أصحابنا' التثقيفي الترفيهي للأولاد، نعرض جهداً يحاول إنقاذ ما تبقّى. ما هو 'أصحابنا'، كيف وُلد، ولماذا؟ تخبرنا الأسعد أنّها أمضت نحواً من ثلاث سنوات تعمل ليصبح مشروعاً ناجزاً. إنّه موقع يعلّم الأولاد من صفّ الأول الى السادس اللغة العربية بأسلوب ترفيهي سلس. 'مجتمعنا قائم على المظاهر'، تقول، 'إذ يتشرَّب التلميذ أنّ اللغات الأجنبية تجعله أرفع شأناً. نريد جذبه نحو اللغة العربية. نفيد من تعلّقه بالتكنولوجيا ونقدّم إليه موقعاً يلقّنه دروساً من غير أن يشعر. نحاكي عقله بلعبة. لسنا ممّن يقولون للصغير إياكَ وجهاز الكومبيوتر. لسنا ممن ترعبنهم التكنولوجيا في متناول الأولاد. التوجيه هو الأهم. 'أصحابنا' تفاعلي، يُحمِّل الصغير عليه صورته، ويرسل النصوص والملاحظات. يمكن القول إنه مجلة ترفيهية أكاديمية تربوية. نقدِّم المعلومة للتلميذ فيما يظنّ أنه يلعب. في الموقع قواعد وإملاء وفهم نصّ ضمن إطار لعبة. ولا يقول 'أصحابنا' للتلميذ عليكَ أن تتنبّه الى درسك. يترك له تحدّي ذاته واتخاذ القرار. 'يستفزّه'، فيتحمَّس: سأكسبُ هذه الجولة وأجيبُ عن كلّ الأسئلة!'.
تُقلّب ضحى الأسعد فقرات الموقع عبر 'الأيباد' كأنّها تُغنّي لأطفالٍ قبل النوم. بعنايةٍ فائقة وقلبٍ كبير. تعطي المشروع اسماً يستهوي أذن الجيل: 'تربية التلميذ أونلاين'. أصبح الموقع في المتناول منذ شهرين، وها إنه على درب تحقيق النتائج. تخبرنا عن رفضه كتابة التلميذ بالأحرف اللاتينية، ويشترط لتصل أفكاره الكتابة باللغة العربية. 'لا نتوجّه الى الولد بالقول إنّ التكنولوجيا بعبع. نتصالح مع الفكرة ونوظّف إيجابياتها لما فيه خيرٌ ومصلحة. غايتنا تحسين الدروس عبر التكنولوجيا. يتعلّم التلميذ من غير أن يدري بذلك. يتعلّم بسرور، ونحن نراقب ماذا يُنتِج. لكلّ تلميذ حسابٌ لتتسنّى الإحاطة بما يفعل'. هل يلغي هذا دور الأستاذ؟ 'أبداً'، تجيب. 'يساعده في الشرح وتحسين التفاعل مع المواد'. تُثني على أهمية الألوان في تثبيت المعلومة، واعتماد الموقع على التوزيع المنظَّم للفقرات بغرض التعليم من جهة، واختبار عامل التلميذ النفسي وذكائه العاطفي من جهة ثانية. حاز الموقع موافقة 'المركز التربوي للبحوث والإنماء'، وإشادة وزير التربية الياس بو صعب. تجول الأسعد على المدارس مُعرِّفةً بـ'أصحابنا'. تؤمن به مشروعاً يقرّب التلميذ من لغته، يُليِّنها، يحدّ من صرامتها، وينعشها على رغم أعباء المنهج والكتب الثقيلة.
المصدر: صحيفة النهار

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد