مقالات ودراسات » إعلانات موت الدولة

محمد شعير
في شهر رمضان تختفي الشياطين، ولكن تظهر شياطين من نوع آخر.. إنها شياطين الإعلانات. وللدقة إعلانات التسول. سيل من الصور الخادعة: مستشفيات تبحث عن متبرعين لاستكمال تأسيسها (مستشفى سرطان الأطفال، مركز مجدي يعقوب)، وجامعات تبحث هي أيضاً عن ممولين (جامعة زويل)، مركز خدمية للدعاة الجدد لإنشاء مدارس للصغار، جمعيات للأيتام.. نحن إذن أمام سيل من الاعلانات يعلن وفاة الدولة، وعجزها عن القيام بأي دور لها.. بما في ذلك أبسط الأدوار: تأسيس مستشفى لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان.. وهو مستشفى يجمع التبرعات خلال العشر سنوات الأخيرة بصفة منتظمة، وكأنها لا تكتمل.. ربما تذكرنا بالنكتة المصرية الشهيرة عن رجل ظل عشرين عاماً ينادي لجمع تبرعات لبناء مسجد «نفق شبرا» وعندما اكتشف المتبرعون أنه لا يوجد مسجد.. اضطر المتسول إلى تغيير النداء: «تبرعوا لبناء النفق..»!
صورة بائسة لم تبدأ هذا العام فقط، ولكنها بدأت في نهايات عصر مبارك، وسياسات لجنة السياسات الاقتصادية التي تبنت نظاماً احتكارىاً تسيطر عليه بل تمتلكه الأسرة الحاكمة وحفنة من بطانتها، مما جعل الفساد جزءاً مكملا للحكم ونجم عنه بطالة واستغلال غير مسبوقين.. بينما رفعت الدولة يديها عن مهماتها الأساسية.. وتركت الشارع نهباً لأفكار جماعات الاسلام السياسي (في المساجد والمستشفيات الصغيرة والزوايا التي تقدم دروساً خصوصية مجانية).
كان مُتصوَّراً أن يختفي المشهد بعد الثورة، لكن ذلك لم يحدث..كان المشهد أكثر إثارة. تركت بطولة المشهد لرئيس الجمهورية الذي يذهب هو الآخر في إعلان بائس بحقيبة سمسونايت (من السبعينيات) إلى أحد البنوك.. مصطحباً معه عشرات من حرسه الشخصي، وكاميرات تلفزيونية، ومراسلين صحافيين.. معلناً تبرعه بنصف ثروته (في الحقيبة السبعينية).. لصندوق لإنقاذ مصر.. ولكي تكتمل الصورة الدعائية ينسى الرئيس هويته الشخصية.. التي يسأله موظف البنك عنها..لأنه لن يستطيع أن يمنح إيصالاً بالتبرع بدون هذه الهوية. مشهد مصطنع أيضاً، كأن أموال الرئيس يحملها في جيبه او يحتفظ بها في بيته، وبالتالي لا يستطيع أن يحولها من البنك الذي يتعامل معه إلى حساب التبرعات «من أجل مصر». يبحث الرئيس هو الآخر عن متبرعين من رجال الأعمال لإنقاذ الدولة الغارقة.. ولكن لا يتبرع أحد. مشاهد بائسة تعلن باختصار عن وفاة الدولة التي تتخلى عن أبسط أدوارها في توفير سرير لطفل مريض أو مقعد في مدرسة.. لم يعد مطلوباً من المواطن سوى التبرع.. والاستغناء (رغم أنه لا يملك شيئاً يمكنه الاستغناء عنه).. وهو ما تجلى عندما تبرع كثير من الموظفين بمبلغ 10 جنيهات (أقل من 2 دولار) من رواتبهم لصندوق «تحيا مصر».. مفارقة الاعلانات الكثيفة التي تطالب المواطن بالتبرع من «أجل الفقراء» أن يكون بموازاتها إعلانات أخرى تدعو أيضاً المواطنين ان يدفعوا ليعيشوا في كومباوندات خاصة ومغلقة بعيداً عن الفقراء!
اعلانات الابتزاز التي تؤكد غياب الدولة.. يقابلها أيضاً إعلان في الواقع من الدولة بوجودها الأمني، قبضتها الغاشمة، قدرتها على القمع، والسجن والتعذيب، بل القتل أحيانا... لم يعد لديها شيء تقدمه للمواطن سوى ذلك. وتؤكد قدرتها على الابتزاز عبر عرض نماذج لأطفال مصابين بالسرطان ويعالجون في المستشفى، أو أطفال ايتام، يحكون تجربتهم، بعيداً عن أي أخلاقيات إعلامية بسيطة ومن دون وازع من قانون أو ضمير. بالتأكيد كثير ممن يظهرون على الشاشات هم مجرد كومبارس، كما جرى هذا العام، عندما ظهر مريض أحد إعلانات العام الماضي الموشك على الوفاة في مشاهد تلفزيونية في مسلسل «صاحب السعادة» لعادل إمام! لكن أخطر ما في اعلانات الابتزاز هو الطائفية التي تتبدى فيها، شيوخ يروجون اعلانات ووصاياهم إلى «المسلمين» للتبرع إلى مستشفى أو مدرسة، سواء أكان هذا التبرع بديلا عن زكاة الفطر، أو استكمالا لثواب الصيام.. ما يعني خروج الأقباط مثلا من المعادلة.. ما يعني أيضا النظر إلى الدولة بوصفها دولة «طوائف».. وتتمترس كل طائفة خلف رموزها لتقدم لأبنائها ما يحتاجونه من تعليم أو صحة!
يسأل دائما خبراء الإعلام هل الإعلان فن أم مجرد رسالة تسويقية فقط؟ وتختلف الإجابة بين مفكر وآخر، بل تتفاوت إلى الحد الذي يعتبر المفكر الفرنسي جان بودريار الإعلان بمثابة نموذج لـ: «انتصار الشكل السطحي، الحد الأدنى المشترك لكل مدلول، درجة صفر في المعنى، إنه أدنى شكل لطاقة الرمز، إنه أشبة بالجنس في أفلام البورنو، لا يمكن تصديقه، وبنفس الفجور الممل» ولأن مصر سباقة، فلم تعد اعلاناتها نموذجاً للدعاية لسلعة معينة، يجبر المتلقي على شرائها سواء اكان في حاجة إليها أم لا، أصبحت رسالة الإعلان الأولى أو الغالبة هي استعطاف المواطن، ابتزازه، باسم الدين أو باسم الوطنية... لكن هل ذلك يكفي؟
(*) كاتب مصري
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد