مقالات ودراسات » ارتباك نظرية الأمن القومي الإسرائيلي وأنماط المواجهة

لم يسبق لإسرائيل أن عاشت مثل هذه الدرجة من الارتباك والمفارقة. من ناحية هي بالغة القوة لجهة امتلاك القدرات النارية الهائلة واحتكار أسلحة دمار شامل وبالمقابل هناك تفكك في محيطها واقتتال داخلي وصل مراحل فظيعة. وعلى الصعيد الدولي ورغم خلافات هنا وهناك لا تزال إسرائيل تشغل مكانة محظية وتتربع على قلب أميركا التي لا تكل ولا تمل من الدفاع عنها والوقوف إلى جانبها. وبالمقابل فإن الأحداث تبين أن كل قوة إسرائيل هذه عاجزة عن توفير الشعور بالأمان في ظل انعدام القدرة على حسم ما إذا كان السلام أم الحرب هو عدو إسرائيل وفي ظل الحيرة حول أيهما أخطر: المدّ الشيعي الإيراني أم المدّ السني العراقي السوري؟
ومن الجائز أن أحداث الأسبوعين الأخيرين سواء ما تعلق منها بالوضع في الضفة والقطاع بعد اختطاف المستوطنين الثلاثة أو التغييرات الهائلة في خريطة التهديدات الإقليمية بعد نجاحات داعش في العراق طغت على كل ما عداها. فحكومة اليمين المتطرف التي طالما نادت بسياسة القبضة الحديدية ضد الفلسطينيين تجد نفسها في وضع بالغ الحرج أمام جمهورها في ظل إدراك متزايد بمحدودية القوة. فالسلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن تشكل خطراً فعلياً على حكومة يمين ترفض من حيث الجوهر مبدأ حل الدولتين. ولكن البديل الوحيد المتوفر حالياً لسلطة أبو مازن، في نظر إسرائيل، ليس سوى حماس المتهمة باختطاف الإسرائيليين وبالتالي بإظهار عجز الاستخبارات الإسرائيلية.
والمشكلة أن إسرائيل التي طالما آمنت بسياسة &laqascii117o;تجفيف المستنقعات" لقتل &laqascii117o;البعوض" تعرف حالياً أن تطبيق هذه السياسة في الضفة الغربية كفيل بتأليب الشارع الفلسطيني ليس على حماس وإنما على السلطة الفلسطينية. وهذا يبرر إعلانها عن إنهاء الحملة العسكرية التي قيل في البداية إنها لن تتوقف قبل إعادة المفقودين وتدمير البنية التحتية لحركة حماس. وإلى جانب ذلك فإن خوض مواجهة مع حركة حماس في قطاع غزة يعني في هذا الوقت إدخال إسرائيل في المعادلة واحتمال وضع إسرائيل من جديد في قفص الاتهام الدولي بارتكاب جرائم حرب. فالحرب في غزة تعني القطع في اللحم الحي للسكان المدنيين كما جرى مراراً والأهم إدخال حوالي نصف سكان إسرائيل في الحرب في وقت أزمة اقتصادية وسياسية.
ومن الجائز أن بين القيود الهامة التي تواجهها إسرائيل حالياً في تعاطيها مع الشأن الفلسطيني، الموقف الأوروبي الذي بات يتعامل بمنطق العصا والجزرة مع الدولة العبرية. وقد رأينا مؤخراً كيف وقفت أوروبا إلى جانب إسرائيل لمنحها منصب نائب رئيس اللجنة السياسية في الأمم المتحدة وكيف أنها حذرت مواطنيها من مخاطر سياسية وقانونية وأخلاقية إذا ما تعاملوا مع المستوطنات.
ولكن هذا ليس السبب الوحيد، لأن إسرائيل بحاجة أساساً إلى أوروبا في المفاوضات الجارية بين إيران والقوى العظمى بشأن المشروع النووي. وتضغط الدول الأوروبية من أجل التوصل إلى اتفاق يمنع إيران من انتاج سلاح نووي، لكنه لا يحرمها من حق امتلاك تكنولوجيا أو حتى القدرة على انتاج سلاح كهذا. ومن المحتمل جداً أن تطورات الحرب الدائرة في العراق بين الحكومة العراقية وداعش فتحت الباب أمام تغيير النظرة الأميركية والأوروبية إلى إيران وأمام التعاون معها في العراق وربما في سوريا. وبديهي أن هذا أضاء كل المصابيح الحمراء في إسرائيل التي تخشى كل تعاون بين الغرب وإيران في أي ميدان.
فإيران في نظر إسرائيل هي السلاح النووي وهي الداعم لحزب الله وفصائل المقاومة وهي كذلك الداعم الأساس للنظام السوري. ولكن إيران في هذا الوقت بالذات تواجه في هذه المحاور خطر المواجهة مع التيارات الجهادية القاعدية في سوريا والعراق. وهذا ما قاد إلى جدال واسع في إسرائيل بشأن أيهما الأخطر: النووي والسياسي الإيراني أم الداعشي في العراق وسوريا والمحتمل أن ينزلق أيضاً إلى الأردن؟ والآراء متباينة بهذا الشأن بين من يضعون أولاً الخطر الاستراتيجي وبين من يستبدلونه بالخطر الفوري والمباشر المؤهل لأن يتحول إلى خطر استراتيجي.
المعارضة في إسرائيل ترى أن نتنياهو وحكومته يخلدون بالوضع الراهن وهم غير مستعدين للتقدم نحو أي حل وبالتالي فإنهم يعرضون للخطر مستقبل إسرائيل. وبحسب زعيم المعارضة العمالية، اسحق هرتسوغ فإن نتنياهو يدحرج المواقف طوال الوقت ويرفض أي حل. وبرأيه: &laqascii117o;لا أمن لدى المواطنين وليس للجمهور الإسرائيلي ثقة فعلية بأي شريك للسلام. ولا نستطيع إبقاء دولة يهودية وديموقراطية إذا ضممنا المناطق حتى نهر الأردن".
ولا عجب والحال هذه أن كل الحديث الإسرائيلي عن تغيير نظرية الأمن القومي يعاني، ولا يزال، من غموض تفضحه الوقائع. فنظرية الأمن التي بنيت على أساس &laqascii117o;قلة في مواجهة كثرة" وعلى &laqascii117o;الحرب النظامية" و&laqascii117o;نقل المعركة إلى أرض العدو" و&laqascii117o;الضربة الوقائية" غدت أكثرها غير ذات شأن، حينما لم تعد المواجهة بطريقة جيش مقابل جيش. تتحدث إسرائيل حالياً عن نظرية أمن تستند إلى خطين متوازيين: خط استراتيجي بعيد المدى بطريقة &laqascii117o;جيش صغير وذكي وفائق القدرة" وخط أمن جاري يستند إلى تكثيف الحراسات والتواجد في كل مكان. وهناك من يؤمن أن نظرية الأمن الجديدة بقدر ما هي مربكة تعبر أصلاً عن ارتباك في قراءة واقع يتغير بسرعة كبيرة جداً.
تقديم وترجمة: حلمي موسى
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد