المقتطف الصحفي » صورة نجم

- صحيفة 'الحياة'
بشار إبراهيم

عندما وصل الشاعر أحمد فؤاد نجم، زمنَ الفضائيات والبثّ الرقمي، كان قد طوى خلفه أجيالاً عدة من أشكال التواصل مع جمهوره، بدءاً من ميكروفون الإذاعة المجروحة الصوت، مروراً بشريط التسجيل الحافل بالضجيج، وصولاً إلى الصورة الكالحة البياض والسواد، وهو الذي كان ممنوعاً من الإذاعة والتلفزيون، فصار نجم الإذاعة والتلفزيون.

مسار طويل ومتعرّج قطعه الشاعر، خصوصاً بعدما غادر الحياة توأمه الشيخ إمام على عجل الزاهد، ليترك لعاشق الحياة بكل ملذاتها، متعة التعرّف الى ما لم يكن ليخطر في بال. فمن تراه كان يتوقّع أن الشاعر الذي كانت قصائده تُهرّب مسجلة على أشرطة مستعملة، مُتهالكة، سيجلس بعد حين على مقعد مٌقدّم برامج تلفزيوني، تحيط به الكاميرات العالية الدقة، وأجهزة التقاط أدنى نأمة في الصوت، وفي ديكورات عامرة بالإضاءة الباهية، ليستكمل لنا جلسة &laqascii117o;القهاوي"، التي طالما تغنينا بها في أشعاره.

لقطتان لا رباط بينهما، ولا جامع، إلا شخصية الشاعر نجم، الذي كانت الخشية دائماً أن تهدر تهوّرات خاتمته، رصانة ما بناه مع إمام في بداياته، بخاصة أنه لم يفكر لحظة باعتزال الراهن، أو الترفّع عن الخوض فيه، بل انغمس بكل ما فيه من وحول تفاصيل، إلى درجة أنه ما غاب لحظة عن حوار صحافي، أو لقاء تلفزيوني، أو شهادة وثائقية، وهو ما كان من الممكن أن يُبهت أيّ شخصية مهما كان تألقها.

بذكاء شديد، هو من جوهر فطرته، استطاع أحمد فؤاد نجم عبور هذا الزمن، محتفظاً لنفسه بصورة الشاعر الذي تربت على أشعاره أجيال متتالية من الشباب العربي، منذ مطالع ستينات القرن العشرين، وحتى الآن، ومن المؤكد أن أجيالاً قادمة ستنهل من نبع هذا الشاعر، وعذوبته الرائقة، ولسعاته الرائعة.

عبر نجم زمن التلفزيون، بعدما أعطاه ما شاء من وقت وحضور، وبعدما أخذ منه ما شاء من تواصل وجسور، فعبر الشاشة القصيرة أطلّ نجم، مُقدّماً وضيفاً ومحاوراً وموضوعاً، ليؤكد أنه هو نفسه الذي عشقناه قصيدة قصيدة منذ نصف قرن، أو يكاد، وأنه هو الجدير بما منحه الناس من محبة، لأنه من طينة المشاهدين أنفسهم، لا ادّعاء ولا فبركة ولا تصنّع.

وإذ يرحل نجم محفوفاً بالحبّ ذاته، الذي زرعه منذ أيام عبد الناصر والسادات، ومكوثه في سجنيهما، ومروراً بزمن مبارك ومرسي، واشتغاله في الشأن السياسي، داخل حزب وخارجه، وأمام شاشة التلفزيون وخلفها... وإذ تردّد الشفاه، ساعة سماع نبأ وفاته، شيئاً من قصائده، فإن ذلك ما كان ليقول إلا جملة واحدة: لقد انتصر الشاعر.

انتصر الشاعر على نفسه التي كانت تميل به كل وقت إلى ميل. وانتصر على زمنه الذي أراد أن يتجاوز الشعر ليرسو على شطّ الغناء بالجسد. وانتصر على السينما عندما قصّت أجزاء من سيرته في فيلم بقي أقل من كعب الشاعر. وانتصر على التلفزيون باحتفاظه بصورة نجم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد