- صحيفة 'النهار'مع رمزية رحيل كامل الأسعد:
علاقة الشيعة بالكيان اللبناني بين الماضي والحاضر [4]
لــعــــنـــة الـمــــوقــــع
طلال خوجة ـ طرابلس (استاذ في الجامعة اللبنانية):
حين ذهبت الى كلية العلوم المبنية حديثاً في الحدث، كنت أحمل معي اسم المسؤول الحزبي الذي سيلتحق به جميع القادمين الى هذا الصرح من أعضاء منظمة العمل الشيوعي الخارجة حديثاً من عدة أرحام بينها القومي والماركسي والبلدي.
كنا من مناطق ودساكر وعائلات مختلفة تلتحق بهذه الكلية الجميلة، التي خرجت أيضاً من أرحام مختلفة منها الشهابي الرسمي ومنها النضالي اليساري والديموقراطي. كانت أسماء عائلاتنا تتكون من دملج وخوجة وخرباوي وحمدان وعبدالساتر وبيضون وبحسون وقانصوه وغيرها. أما مسؤولنا فكان نصير الأسعد، الذي قبضنا عليه بالجرم المشهود حين علمنا في يوم الانتخابات الطالبية ان اسمه نصير بيك الأسعد وان قرابته بالرئيس الاقطاعي كامل الأسعد هي من الدرجة الأولى، اذ ان احد هتافاتنا الرئيسة كانت'واللي إقطاعي جدو بيعمل متل ما بدو'.
كان البيك الاحمر الأسعدي طالباً في هندسة اليسوعية، قبل ان يحمله تمرده وماركسيته وعدم درسه الى رفاقه من الطبقات العادية في كلية العلوم، والتي حرص رائدها على دس موسيقى كلاسيكية في ممراتها ومداخلها حتى لتظن ان البيك الاسعدي لم يخسر كثيراً من القدوم اليها. ومع ان مدينتي طرابلس كانت تضم في منوعاتها بعض العائلات الشيعية التي آثرت البقاء فيها بعد تقاعدها كعائلات صادق وهو نسب والدة الأمين العام 'السيد' محسن ابرهيم، وشمص ويونس، او قدمت الى رحابها من بلاد جبيل هرباً من العوز او من الجور التركي كحمادة وعلام وغيرها، الا انني لم أكن لأعرف ان معظم الرفاق الذين سألتحق معهم بقيادة البيك، هم من الطائفة الشيعية ومن مراتب وفئات إجتماعية متنوعة، ربما بسبب ضعف الحس الطائفي (وبالتأكيد المذهبي)، آنذاك حيث كنا نلتحف بالافكار اليسارية لمواجهة الاقطاع.
وقد أتى معظمنا من حركات التمرد الشامل على القيم السائدة آنذاك، وهي قيم تتغذى من سيادة نمط اقتصادي يقوم على الخدمات والريع وتوزيع غير عادل للثروة وسيطرة الاقطاع السياسي من خلال نظام طائفي لم يدركه اليساريون في البداية، متهمين الإمبريالية وغيرها 'بزرع الفتن والشقاق'. لم تكن الطاقات الشبابية حكراً على منظمة العمل الشيوعي أوالحزب الشيوعي بل اخترقت كل الأحزاب والفئات والهيئات التغييرية والمتنورة، كما أنّ الاحزاب اليسارية والعلمانية والديموقراطية لم تستند على ابناء الطائفة الشيعية فقط، الا ان وجودهم بكثرة كان يشير الى الحرمان المضاعف الذي يشعرون به داخل النظام السياسي الذي أطلق عليه وصف نظام المارونية السياسية (أو الثنائية المارونية - السنية)، ورغم ان الرئيس الراحل كامل الاسعد كان يجلس على يمين رئيس الجمهورية، الا ان جمهور الطائفة كان بالكاد يجد كراسي عادية ليجلسوا عليها في منازلهم المتواضعة بمجملها، خصوصاً انهم شكلوا الجزء الاوسع من حزام البؤس حول العاصمة التي اكسبت لبنان لقب سويسرا الشرق.
وللبؤس الشيعي في الكيان اللبناني حكاية طويلة ومن محطاتها، السيطرة العثمانية المباشرة في اعقاب حوداث 1860 ونشوء نظام المتصرفية، إذ ان إقطاع جبل عامل، كان يتميز باستقلال معقول عن السلطنة وتمتاز مناطقه بأوضاع اقتصادية واجتماعية مزدهرة نسبيا، كما معظم المناطق 'اللبنانية' الاخرى، ومن ثم احتل الجيش التركي المناطق اللبنانية وألغى لاحقا نظام المتصرفية في عام 1915، ربما لهذا ساهم الاقطاع السياسي الشيعي ورجال الدين العامليون في الثورة العربية الكبرى بقوة ومن ثم في مبايعة الملك فيصل ودعم الاستقلال العربي الذي انتهى بعد انقضاض الجيش الفرنسي على دمشق في موقعة ميسلون، والتي بدا فيها الفرنسيون كأنهم ينتقمون عن الغرب المسيحي من صلاح الدين الايوبي المسلم (مع المعذرة من أم جوزف في مسلسل باب الحارة)، ومن ثم نشأ الانتداب الذي اقره مجلس الحلفاء الاعلى في مؤتمر سان ريمو، علما أن الفرنسيين سيدفّعون داعمي الملك فيصل ومنهم أهالي جبل عامل ثمن دعمهم.
هكذا انتقل عهد الطوائف اللبنانية الى مرحلة بناء النظام الطائفي اللبناني على اسس عصرية حديثة، وقد ولد هذا الكيان وهو حمل في ذاته التباساً حول طبيعته ووظيفته وعلاقات طوائفه ببعضها البعض من جهة، وبالخارج من جهة أخرى، خصوصاً الخارج الاوروبي الذي أعاد 'اكتشاف' بيروت وجبل لبنان في القرن التاسع عشر بعد حملة نابوليون على مصر وبعد دحر ابرهيم باشا عن لبنان، فاستفادت هذه المناطق من تغلغله الاقتصادي والثقافي بينما تضررت مناطق أخرى كان عليها ان تأخذ غرم التغلغل دون غنمه، فقاومته خصوصاً في جانبه التحديثي، علما ان الانتداب ارتكز على كبار الاقطاعيين الموالين في الأرياف للسيطرة عليها، فأدى الى احتكار هذه العائلات تمثيل الطائفة الشيعية في جميع مؤسسات الدولة السياسية والادارية، وباجتماع عنصري السلطة الاقتصادية والسياسية بيد الاقطاعيين، انجذب اليهم والتف حولهم اصحاب الحاجات من ابناء الطبقات الشعبية العامة وسواهم وشكلوا القاعدة البشرية والانتخابية للاقطاع عموماً ولاقطاع جبل عامل خصوصاً.
ورغم اعتراف الانتداب بالشيعة كملّة اسلامية، فإنه لم ينعكس ايجاباً على حركية رجال الدين التي تركزت عنايتها وبعض المثقفين حول التثقيف والتعليم وتأسيس الجميعات، مدفوعين ربما برغبة الاصلاح والنهوض بالمجتمع العاملي الريفي بينما كانت بيروت وجبل لبنان تتقدم نحو التحديث، وان بغلبة واضحة للطوائف المسيحية، وكانت طرابلس تتراجع أمام بيروت وقناصل أوروبييها، وان لم تفقد مدينيتها الضاربة في الزمن، رغم انها فقدت دورها كمرفأ وملجأ وحاضرة الشمال الساحلي والوسطي السوري بانضمامها إلى لبنان الكبير.
لقد ادى هذا الواقع الى انخراط الشيعة في قطاعي التجارة والخدمات فأدى ذلك الى بروز شرائح من الطبقة الوسطى، خصوصا مع الاصلاحات الشهابية وطبيعي ان تتضارب مصالح هذه الفئات مع مصالح الاقطاع السياسي من جهة والبورجوازية المهيمنة على القطاعات المالية والتجارية والخدماتية من جهة اخرى، وهما من ركائز النظام السياسي والاقتصادي. وقد كان طبيعياً ان 'يتدفق' هؤلاء الى الحركات السياسية، اليسارية منها خصوصا، ولبنان كان خزان الاحزاب على اختلاف تلاوينها الإيديولوجية، وقد ادى ذلك ايضاً الى ان يمم كثيرون، بمن فيهم رجال دين شطر العلوم غير الدينية من أجل الترقي الاجتماعي والرفاه الاقتصادي.
حين وصلت الى كلية العلوم لالتحق بالرياضيات من جهة، بإشراف جيلبير عاقل وابرهيم الحاج الشيوعيين، وتحت بصر وغليون حسن مشرفية، وبرفاقي في المنظمة بأكثريتهم الشيعية من جهة أخرى، كان قد مضى حوالى عشر سنوات على وصول الامام موسى الصدر إلى صور بعد حوادث 1958 والخلافات بين زعماء الشيعة والتي لم تخرج من سقف الهوية الكيانية اللبنانية، وهو سيخطب لاحقا في الكلية ذات الرمزية العالية، وكان كمال جنبلاط يشكل عامل الامتصاص الرئيسي بين الشارع (ذي الغلبة الاسلامية) والسلطة (ذات الغلبة المسيحية)، وكانت بعثة 'ارفد' غادرت بلد التناقضات السبعة والعجائب العشر، تاركة تقريراً يخلط بين الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس الغرائبي، الا ان الأكيد بأن المسافة بين المركز والاطراف كانت تزداد اتساعاً وكانت هتافاتنا المفضلة: 'والبيو بيبقى مفلس غير البيو بالمجلس' و'وتنحمل ما عاد فينا هيدي دولة جورجينا'. وللدلالة على مقاومة المنظمة للامتصاص، كان هتافوها يصرخون امام المجلس '99 حرامي'. ومع ذلك فقد شكل هذا الامتصاص سمة المرحلة اللاحقة التي عملت في اتجاه احداث تغييرات واصلاحات في النظام الطائفي لجهة تخفيف الفروقات بين المركز والاطراف واحداث توازن بين الطوائف، فضلاً عن تحسينات اجتماعية وتربوية وشبابية وصحية وعمالية، الا ان الغالب عليها كان المسائل الوطنية والطائفية وأزمات الحكم المتكررة وهذا ما هيأ لنشوء الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط.
أدرك الامام مبكراً وظيفة وحجم الدور الذي سيلعبه في الطائفة الشيعية وهو الدور الذي سيعوض عن اخفاقات وعنجهية الاقطاع السياسي من جهة ويوقف تدفق ابناء الطائفة الى الاحزاب والتنظيمات اليسارية من جهة أخرى، وهذا يتطلب استحضار العامل الديني بقوة، فكان انجازه الاهم هو المجلس الإسلامي الشيعي الذي احتضن النخب الشيعية السياسية والدينية وغيرها واصبح مرجعية اساسية يقودها الامام المنتخب موسى الصدر في 1969، علماً انه اسس جمعيات اجتماعية وثقافية وتربوية ودينية خيرية منذ مجيئه متشبها بالطوائف الأخرى وواضعا الشيعة في العربة الفعلية للنظام الطائفي. ومع ان خطاب الامام قال بعدم التمييز بين المسلمين وعمل على التواصل مع المسيحيين (عبر غريغوار حداد وميشال الاسمر وغيرهما)، الا أن حركته اطلقت المارد الشيعي من القمقم، اذ ان المفكرين والمناضلين والنقابيين البارزين من اهل الطائفة كانوا من دعاة النظام الديموقراطي العلماني، رغم تأييدهم اللاحق للبرامج والاصلاحات المرحلية، وسيدفع هؤلاء لاحقاً، أكثر من غيرهم، دماً وتهجيراً في سياق صعود هذا المارد.
بعد هزيمة الانظمة العربية في 1967، دخل العامل الفلسطيني بقوة في لبنان بعد ان نشأ العمل الفدائي المسلح وبما ان لبنان كان يحتضن جزءاً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين، فقد كان لهذا العامل تداعيات كبيرة جداً على البلد ذي التوازن الهش، خصوصاً بعد اتفاق القاهرة وتدفق الفدائيين بعد أيلول الأسود واستقطاب المقاومة الفلسطينية رافضي الهزيمة، من يساريين واسلاميين وعروبيين ومهمشين وغيرهم. فكانت ان استقوت الشخصيات الاسلامية، السنية خصوصاً، بهذا الوافد الجديد واعتبرته عامل قوة في مواجهة الاستئثار الماروني الذي بدأت احزابه بالتسلح غير مكتفية بـ'جيشها الشرعي'. وفي موازاة ذلك ستنشأ حساسية فلسطينية - شيعية نتيجة الثمن الباهظ الذي سيدفعه الجنوبيون خصوصا، مما سيفسر لاحقا رش الأرز على جنود الإحتلال في بعض القرى الشيعية وكمية الملتحقين الشيعة بجيش لحد، علما أن آباءهم شاركوا في دعم ثورة 36 كما سيشارك أبناؤهم لاحقا وبقوة في مقاومة ودحر الإحتلال.
في هذا الجو العابق أخرج الامام الصدر حركة المحرومين من عباءته لتشكل اطاراً يحتضن بؤساء وفقراء وفلاحي الطائفة الأكثر قهرا، إذ لم يعد المجلس الإسلامي الشيعي قادرا على احتواء 'المقهورين'. طبعاً كان هناك محرومون من كل الطوائف وكان ملاذهم السياسي يتشكل من الاحزاب والحركات اليسارية والاقطاع السياسي وبعض المنظمات الفلسطينية لاحقا، الا ان حركة المحرومين الصدرية ستصبح حزباً شيعياً سياسياً مع تأسيس ميليشيا باسم افواج المقاومة اللبنانية ( أمل)، بينما سيعتمد السنة ضمنيا على الآلة الفلسطينية المسلحة وشريكتها الحركة الوطنية والمسيحيون على القوات اللبنانية و'جيش' ميشال عون لاحقا.
هكذا اصبح الامام زعيم الطائفة الشيعية رغم رغبته ربما بأن يكون زعيماً لبنانياً أو إسلاميا، ففي ظل النظام الطائفي اللبناني تشكل الطائفية بالمعنى السياسي للكلمة لغة واساس الصراع والوفاق السياسي. لان لبنان بلد تتشكل فيه القضايا في الاطار الطائفي، كما يشجع نمو الحركات والقوى الطائفية. ففي موازاة تشجيع الاقطاع السياسي لنشوء حركة الشباب العلوي في طرابلس في مواجهة نمو اليسار في بعل محسن، فشلت حركة 'المفتي' منصور التي حاولت وضع الطائفة العلوية تحت العباءة الجعفرية الصدرية الصاعدة.
لقد حاول الامام الصدر ان يمسك العصا من وسطها في فترة الحرب الاهلية فلم ينجح، غامزا ربما من قناة الحساسيات المختلفة، وهذا ما وسع دائرة المعارضين لأدائه في الداخل والخارج، إلاّ أنّ التيار الاساسي الذي سوف ينمو بعد تغييبه سيكون حركة شعبوية طائفية تسعى اساساً الى تحسين وضع الشيعة في المعادلة السياسية والاقتصادية اللبنانية، وستشهد بالطبع حركة 'أمل' صراعات متنوعة، منها صراع بين الديني والسياسي خصوصاً بعد انتصار الثورة الخمينية الاسلامية، التي وان عززت الشعور الشيعي عند الطائفة، الا انها اقلقت حركة امل وراعيها السوري. وسيشكل، اجتياح 82 وخروج المقاومة الفلسطينية وتراجع القوى اليسارية رغم اطلاقها حركة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي (وهو تراجع تغذى ايضاً من انهيار 'العالم الاشتراكي'وصعود النيو ليبرالية)، الخلفية التي ستجعل المارد الشيعي، وقد أصبح إقليميا، يخرج من جوفه 'حزب الله' والذي سيحمل وجهة نظر شيعية راديكالية تتبنى نظرية الولي الفقيه والولاية العامة، مصطدماً نظرياً في البداية، مع آراء الامام شمس الدين وبقية اصحاب الامام الصدر وحتى مع آية الله فضل الله، مما ادى الى الاشتباكات المروعة بين 'امل' و'حزب الله' والتي لم تهدأ الا بقسمة عمل مدارة ومنجزة بين ايران وسوريا، يستأثر 'حزب الله' فيها بالمواجهة المسلحة مع الاحتلال والغرب وغيره، وتنفرد 'أمل' بإدارة الصراع الميليشيوي والسياسي مع بقية أطراف وطوائف النظام السياسي.
وفي الطريق الى ذلك جرى 'تطفيش' واغتيال بعض القادة اليساريين، خصوصا من أبناء الطائفة، كما جرى سحق المخيمات الفلسطينية في بيروت بمساعدة سورية، وهي لم تكن تعافت بعد من مجزرة صبرا وشاتيلا، وستصبح دعوة السيد محسن ابرهيم ولجنته المركزية، في وقف الحرب الاهلية، وقد اصبحت عبثية، وان القتال الوحيد المشروع هو ضد الإحتلال، دعوة عبثية ايضا، وستستكمل هذه الحروب، المدارة إقليميا من كل الضفاف، بأشكال متفرقة حتى اتفاق الطائف الذي اسس لتوازنات طائفية جديدة، ادت عملياً الى نشوء ثلاثة رؤوس دستورية. ومع ذلك فقد شكل الإتفاق اعلاناً مدويا لدخول المارد الشيعي الى الحلبة الحقيقية للنظام الطائفي، بما سيعنيه من تدفق شيعي غير مسبوق إلى إدارات الدولة التي سيجف حليبها.
ومع ان 'حزب الله'، لم يخف عند انطلاقته برعاية ايرانية، طروحاته العابرة للنظام اللبناني في اتجاه الدولة الاسلامية وبالعلاقة مع الجمهورية الاسلامية التي يدين لها بالكثير، الا ان التسوية وطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي اللبناني فرضا عليه نوعا من التأقلم وتدويراً للزوايا اللفظية والعملانية، حتى انه ورغم اعتراضه الضمني على الطائف، فقد دخل بقوة بنظامه، خصوصاً حين اصبح نظام وصاية فتقاسم النيابة مع 'امل' ودخل المعركة البلدية وبدأ المحاشرة في كل الأمكنة مما سيكسبه نوعا من اللبننة الواقعية.
لقد شكل التحرير منعطفاً مهماً في تاريخ 'حزب الله' والبلد، حيث كان من المفروض نظرياً على الاقل ان تتحول المقاومة، المطيفة اصلاً، الى العمل السياسي فيجري استيعاب قوتها في اطار القوى الشرعية للدولة. ولكن 'حزب الله' والحلف الايراني السوري كان لهم وجهة نظر أخرى، تمثلت بإخراج قصة تلال كفرشوبا ومزارع شبعا ولاحقاً طبعاً فلسطين والامة الاسلامية كمقدمة لتأبيد المقاومة التي اصبحت حجر الرحى في الصراع الاقليمي والدولي، وبالتالي ادخال البلد في اوراق 'الممانعة السورية'، والقوى الاقليمية الايرانية الصاعدة على أنغام القضية النووية. وقد زاد هذا الواقع من ظلامة الطرف المسيحي المتراجع أصلا في تركيبة النظام الأمني السوري اللبناني، كما اجج مشاعر الطائفة السنية التي فقدت باكرا نصيرها المسلح مع خروج منظمة التحرير، وبالتالي بات الجميع ينظر الى المقاومة الإسلامية كنظرة ميليشيا صافية تلعب دوراً في غلبة وزن الطائفة الشيعية في مؤسسات ومجالس ومسارب الدولة برعاية ايرانية سورية، خصوصاً مع ازدياد المضايقات لرفيق الحريري الذي رأت فيه الطائفة السنية منقذاً، فضلاًعن قدرته الاعمارية الهائلة بتواصله العربي (السعودي حصوصا) والدولي وقدرته على مد الجسور مع باقي المكونات اللبنانية.
لقد شهد البلد سنوات من الصراع بين مؤيدي السيادة وهم في غالبيتهم سنة ومسيحيون ودروز ومؤيدو الممانعة والتمديد وهم في غالبيتهم شيعة، فضلاً عن بقايا بعض الاحزاب والتجمعات والهيئات الهامشية. لذا شكل اغتيال الحريري صدمة للبنان عموماً وللسنة خصوصا ومن ثم للدروز والمسيحيين وربما السواد الاعظم من الشيعة، وكان ان انطلقت ثورة الارز وازداد الاصطفاف السياسي والمذهبي حدة حتى وصل حدود الانشطار، خصوصاً بعد حرب تموز ومحاولة 'حزب الله' توظيف الإخفاقات الإسرائيلية وفائض القوة بتغيير طبيعة وواقع النظام اللبناني، باحتلال وسط بيروت واقفال البرلمان ومنع انتخاب الرئيس وصولا الى اجتياح 7 أيار وأخيراً محاولة الغاء المحكمة الدولية التي يأمل اللبنانيون ان تكون سبيلهم لوقف الارهاب المستند على الاغتيال والقتل، والذي يهدد بلدهم ونمط عيشهم كما يهدد بانفجارات مذهبية، خصوصا مع الشحن المذهبي والترويج بقدوم المهدي وغير ذلك من ردود فعل أصولية سنية من النوع نفسه، علما أن فائض القوة هذا سيصطدم بحدود الوزن الشيعي في المناصفة، مما يؤدي إما إلى طرح تغيير المناصفة وهذا مستحيل أو المحاشرة بين الحليفين اللدودين.
في برنامج تلفزيوني عن الراحل كامل الاسعد، أكد 'الرفيق نصير' ان الخلاف السياسي مع الزعيم الوائلي يجب الا يحجب عداءه للكيان الصهيوني الذي نشأ على تخوم جبل عامل مهجراً شعب فلسطين، رغم ان هذا الزعيم أمن انتخاب بشير ومن ثم امين الجميل تحت الحراب الاسرائيلية، ربما في محاولة منه لتخفيف الخسائر ومنع انهيار الدولة بالكامل خصوصاً انه اقسم على الدستور. كما قال نصير ان الرئيس الاسعد تمتع بالصدقية وكان بعيداً عن الفساد المباشر، وان كان ركناً من اركان النظام المشجع على كل الآفات.
وقد حاول البيك الراحل مقاومة استئثار 'حزب الله' و'حركة امل' الى ان قطع الامل من ذلك فانسحب بهدوء، إلا ان ابنه احمد استمر بالمحاولة، فكان نصيب اركان حركته الاعتداءات والتهديدات رغم انهم لم يشكلوا خطراً مباشراً مما يشي بالطبيعة الشمولية والقلقة لـ'حزب الله' كما كفر المعارضون الآخرون. اما 'حركة امل' فلطالما ردد رئيسها في معرض دفاعه عن تمسكه بالمحاصصة المذهبية انه، ما لم يغير الآخرون سيبقى 'كل ديك على مزبلته صياح'. وحين نرى طبيعة وجشع ووقاحة بعض الفئات السياسية التي لطالما رددت نغمة الخط العربي (أي السوري)، وغيرهم ممن يرفعون اصابعهم كل يوم في وجه شركائهم في الوطن، حينها نتذكر قول وليد جنبلاط، عشية محاولة اغتيال مروان حمادة، في برنامج 'كلام الناس': 'افضل ان اكون زبالاً في نيويورك على أن أكون من اصحاب الخط إياه'.
كان جنبلاط حينها يتكلم بالنيابة عن معظم اللبنانيين، خصوصاً ممن امتهنوا العداء للكيان الصهيوني وتربوا على افكار التغيير وعشقوا العروبة الطوعية الديموقراطية المنفتحة على الحداثة وحلموا بوطن يعيش فيه الانسان بكرامة كمواطن وليس كشخص ينتمي الى طائفة، معلنا عمليا حزنه على مآل الشيعية السياسية.
وأخيرا أقول إذا كانت كل الطوائف ظنت أنها تشاطرت بتعاملها مع الخارج والخوارج (من عمالة كما يفسرها جهاد الزين) للإستقواء على شركائها فخاب ظنها، فإنه حري بأن تأخذ قيادة 'حزب الله' العبرة من تجارب الآخرين، خصوصا أنها المرة الأولى التي يكاد يعلن فيه طرف ما، يمتلك قوة هائلة خارج الدولة، ولاءه الإيديولوجي الأول لدولة خارجية، مما يجعل البلد المعذب أصلا بصراعاته الداخلية، ساحة عارية أمام كل الأعاصير. فهل تعني استدارة جنبلاط الحادة وعقد الموتمر الدرزي المجاز! أنه لاعبرة ولا من يعتبرون وأن آلام المخاض الكيانية مستمرة وأن على اللبنانيين أن يتحملوا لعنة الموقع؟
الاثنين المقبل: مساهمة الشيخ علي خازم 'الشيعة بين 'الولاية' والمواطنة'
ـ صحيفة 'الأخبار'
بلمار من &laqascii117o;فرضية المطر" إلى نهاية &laqascii117o;النفق" [2/2]
عمر نشابة:
دانيال بلمار يقرأ الصحف اللبنانية ويقول &laqascii117o;لو لم أكن حسّاساً تجاه ما يجري لكنت غير مسؤول". لكن هل تدلّ تصرّفاته على حساسيته المسؤولة؟ حديثه الإعلامي الأخير يفتح النقاش
المدّعي العام في المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري اختار إطلالته الإعلامية عبر موقع إلكتروني (ناو ليبانون) ليدلّ على حذره من قرائن قد تشير إلى ضلوع إسرائيل في الجريمة. وبينما يرفض بلمار الإجابة عن سؤالين طرحهما عليه الزميل آرثر بلوك بشأن استماعه إلى شهود أو مشتبه فيهم إسرائيليين أو موجودين حالياً في إسرائيل، يبادر الرجل إلى إعلان أمرين يتعلّقان بمضمون مقابلات المحققين بمسؤولين في حزب الله (Hizbollah officials) وشكلها. ومن خلال ذلك يتجاوز المدّعي العام الدولي مبدأ سرية التحقيق التي طالما نادى باحترامها. فبلمار وافق على الإجابة عن سؤال يتعلّق بمقابلات فريق التحقيق مع مسؤولين في حزب الله عبر إشارته إلى أن كلام هؤلاء لم يشر إلى المعلومات التي وردت على لسان السيد حسن نصر الله خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في 9 آب الفائت. أما في الشكل، فقد أكّد بلمار أن المقابلات مع المسؤولين في حزب الله تجري على أساس أنهم شهود، &laqascii117o;مثلهم مثل أي شهود آخرين". لكنه لا يفصح عن احتمال وجود شهود إسرائيليين. لا تفسير واضح لتلك الازدواجية في التعاطي مع معلومات تخصّ حزب الله وأخرى تخصّ إسرائيليين، لكن لا شكّ في أنها تثير أسئلة عن مستوى الحياد الذي يفترض أن يتمتّع به جميع العاملين في المحكمة الدولية إذا كانت وظيفتها عدلية. أما إذا كانت وظيفتها سياسية، فلتصرّفات بلمار تفسيرات مقنعة.
عاصفة الأدلّة ظرفية
&laqascii117o;الصورة الكاملة" ستكون قابلة للتشكيك أمام هيئة المحكمة بفضل الدفاعقال بلمار &laqascii117o;إن الأدلة الظرفية هي عبارة عن وقائع صغيرة، عندما يُنظر إليها كلّ واقعة على حدة، لا تعني شيئاً، لكن عندما يُنظر إليها معاً، تصبح الصورة الكاملة غير قابلة للتشكيك (irrefascii117table)". وحسم أن &laqascii117o;الأدلّة الظرفية أكثر قوّة (more powerfascii117l) من الأدلّة المباشرة". هذا الكلام الحاسم لا يتناسب مع معايير العدالة ومع إجراءات المحكمة الدولية، إذ إن &laqascii117o;الصورة الكاملة" تكون دائماً &laqascii117o;قابلة للتشكيك" أمام هيئة المحكمة بفضل وظيفة الدفاع. وكان الرئيس أنطونيو كاسيزي قد نوّه بالتوازن بين الادّعاء والدفاع الذي يحقّ له إجراء تحقيقاته لدحض الاتهامات. ولا شكّ في أن التشكيك في الأدلة الظرفية أكثر سهولة من التشكيك في الأدلة المباشرة. لنناقش المثل الذي عرضه بلمار خلال مقابلته الصحافية. يقول: &laqascii117o;تريد أن تثبت أن الأمطار هطلت اليوم، فتثبت أن الرصيف مبلّل، وتثبت أنه لا أحد نظّف الطريق، إلخ. هذه الحقائق وحدها لا تعني شيئاً، لكن إذا جُمعت يمكن التوصل إلى خلاصة أن الأمطار هطلت بالفعل. هذا ما أعنيه بالأدلة الظرفية". لكن بلمار نفسه كان قد قال إن الأدلة هي التي توجّه التحقيق، ورفض الرؤية الموجهة مسبقاً أو ما سمّاه &laqascii117o;نظرة النفق" (Tascii117nnel Vision) بينما يتحدّث عن انطلاق منهجية الإثبات بإعلان &laqascii117o;فرضية". ففي المثل الذي تحدث عنه، يبدأ بعرض فرضية هطول المطر، ومن ثمّ يبحث عمّا يثبتها. ويمكن بالتالي أن يستعين صاحب &laqascii117o;نظرة النفق" بذلك للوصول إلى الفرضية التي تقع في آخره.
وإذا كان السيد حسن نصر الله مثلاً يعتمد &laqascii117o;نظرة النفق" الذي ينتهي بأن إسرائيل اغتالت الحريري (وهو ما نفاه في 9 آب)، فإن القرائن التي تقدّم بها خلال المؤتمر الصحافي، وهي قرائن تدخل في خانة الأدلّة الظرفية، تسهم في إثبات المسؤولية الجنائية الإسرائيلية. لنعد مرّة ثانية إلى المثل الذي أورده بلمار ونستبدل المطر بإسرائيل، &laqascii117o;تريد أن تثبت أن إسرائيل قتلت الحريري، فتثبت أن طائرة &laqascii117o;إيوكس" كانت في المكان وقت وقوع الانفجار، وتثبت أن عملاءها راقبوا المكان مسبقاً، إلخ. هذه الحقائق وحدها لا تعني شيئاً، لكن إذا جُمعت يمكن التوصل إلى خلاصة أن إسرائيل قتلت الحريري بالفعل". لكن ماذا لو اختار بلمار حزب الله بدل المطر؟
ـ 'الاخبار'
دمشق تطالب الحلفاء بإحاطة الحريري
ابراهيم الأمين:
بدا أن دمشق المهتمة ببناء علاقة جيدة مع رئيس الحكومة سعد الحريري، تأخذ ببعض ما يقوله الرجل. لكن الأمر لا يقف عند ما يفترضه هو ومقربون منه لناحية أنه توافق. بل لعل بعض المهتمين وبعض العارفين في السياسة السورية يشرحون الأمر بأنه تفهّم لأسباب موقف الحريري، أي فهم ما يدفعه إلى موقفه، لكنه ليس تفاهماً معه على ما يقوله.
ويشرح زوار العاصمة السورية هذه المقاربة بالقول إن في سوريا، على مختلف المستويات، من هو مقتنع بأن الحريري سيكون، حتى إشعار آخر، الممثل الأكثر شرعية للطائفة السُّنية في لبنان، وإن التفاهم أو التعاون السوري مع السعودية يعزز موقع الحريري على غيره من المرشحين لتولي منصب رئيس الحكومة، وإن دمشق تعتقد أن بديل الحريري في ظل الانقسام السياسي الحالي في لبنان لا يمكن أن يكون مساعداً على الاستقرار، إلا إذا اختير من فريق الحريري نفسه. وهذا يعني أن البديل الواقعي للحريري هو الرئيس فؤاد السنيورة، وهو الشخص غير المرغوب فيه من سوريا ومن كل قوى المعارضة السابقة.
وبناءً على هذه القراءة، يبدو أن في سوريا حماسة إضافية لأن يُصار إلى البحث في تعطيل بعض الأسباب التي يعتقد أنها تؤثر سلباً على الحريري، ومن بينها أنه واقع طوال الوقت تحت تأثير قوى وشخصيات وجهات معادية لها وللمقاومة، سواء من المقربين أو العاملين معه أو من حلفاء له أو من شخصيات محلية وعربية ودولية تدور في فلك آخر. ووجدت سوريا أنه قد يكون من المفيد إدارة الأمر بطريقة مختلفة، تقوم على الإحاطة برئيس الحكومة، وهذه الإحاطة بمعناها السياسي توجب التواصل معه بطريقة مختلفة عن السابق.
لذلك، حثت سوريا شخصيات من معارضي الحريري على استعادة التواصل معه، والإصرار على التحاور معه في كل وقت، وحجز قسم من وقته لشخصيات من غير فريقه، والعمل على دفعه نحو مواقع أكثر التصاقاً بالعناوين التي تحول دون اندلاع فتنة لبنانية داخلية. بناءً على ذلك، باشرت شخصيات من القوى المحسوبة على سوريا التواصل مع الحريري على هذا الأساس. ومن بين هؤلاء، النائب الأسبق لرئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي، والنائب عاصم قانصوه. والأخير، وإن كان يستفيد من علاقة خاصة كانت قائمة بينه وبين الرئيس الراحل، فإن الآخرين يصنَّفون في خانة الفريق القادر على دفع الأمور نحو وجهة مختلفة.
لذلك، فإن بعض الاجتماعات التي عقدت في الأيام التي تلت زيارة الحريري لدمشق ولقاءه الرئيس بشار الأسد اتخذت هذا الطابع. وتفيد معلومات أكيدة بأن الحريري سمع من مقربين من سوريا كلاماً عن ضرورة اعتماد آلية تشاور مع جميع اللبنانيين لاتخاذ الموقف الأفضل في مواجهة الاستحقاقات الداهمة له محلياً وإقليمياً، وخصوصاً من موقعه رئيساً للحكومة. كذلك سمع الحريري كلاماً انتقادياً ومواقف وطروحات تصدر عن مقربين منه، توحي بأن هؤلاء لا يهتمون بعلاقته مع دمشق ولا يفهمون أنهم بمواقفهم هذه إنما يسيئون إلى الحريري ولا يساعدونه على مواجهة المطروح أمامه. وربما ذهب البعض في الانتقاد إلى حدّ تسمية مقربين أو زوار لرئيس الحكومة وذكرهم بصورة قاسية، واستعادة مواقف لوالده، من سوريا تحثّ شخصيّات على الانفتاح والعمل على مواجهة فريق المحرّضين عليها وعلى المقاومة بينها قَسَم تجاه هذه الشخصيات. وعلى حد تعبير أحدهم، فإن الحريري الأب كان قد أقسم إنه لن يسمح للرئيس أمين الجميّل بالدخول إلى منزله، لكن الأخير صار في فترة قياسية أحد ساكني القصر، وأظهر رغبة قوية في بناء تحالف وثيق مع الحريري، وبات من الزوار الدائمين لقريطم. كذلك، هناك بحث لمواقف مقربين من الحريري من الذين تعتقد دمشق أنهم دفعوه إلى مواقع خاطئة سببت له مشكلات وخسائر سياسية وشعبية كبيرة.
وبحسب البعض، فإن الحريري في مرحلة الاستماع وليس في مرحلة التفاعل مع هذه الأمور، ولو أنه يتعامل مع الأمر بجدية آخذاً في الاعتبار أن دمشق تظهر له استعداداً للتفاعل والتعاون أكثر مما يعتقد هو، لكنها لا تريد للأمر أن يظل على ما هو عليه حالياً، أي على النحو الذي يقول زوار دمشق إنه يقوم على فكرة أن مفعول زيارة الحريري لسوريا لا يتجاوز الأيام القليلة، وأن فريقاً مكلفاً &laqascii117o;تخريب" علاقته بسوريا يتولى خلال هذه المدة تسويق كل المواقف التي من شأنها إعادة الأمور إلى النقطة الصفر.
لكن هل هذه هي طريقة العلاج؟
في جانب من الأمر، تبدو دمشق متفهمة لحاجة الكل إلى التواصل والتحاور، وخصوصاً أن الحريري باقٍ في موقع رئيس الحكومة حتى إشعار آخر. لكن في مكان آخر، ثمة استعادة سورية لمنطق سبق أن جربته أثناء وجودها في لبنان، وفي سوريا آراء من النوع الذي يظهر سوريا كأنها على الحياد في مواجهة الاستحقاقات، فضلاً عن أنّ في الأمر نوعاً من الرهان غير المنطقي، ربطاً بالموقع الفعلي الذي يحتله الحريري محلياً وعربياً ودولياً. وهو رهان يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل خمس سنوات، الأمر الذي لن يكون واقعياً أو منطقياً؛ لأن حجم التحولات التي جرت في البلاد كبير جداً، والخطورة تكمن في أن يكون في سوريا من يرغب في إعادة تكرار السياسة السابقة، ما يعني أن البلاد ستكون مقبلة على تجاذبات لا تنتهي إلى نتائج حاسمة، وعندها يكون الحريري قد استفاد ـــــ كما وليد جنبلاط ـــــ من الغطاء السوري من دون أي مقابل حقيقي.
ـ صحيفة 'السفير'
من هو شاهد الزور في قانون العقوبات اللبناني؟ (1)
كامل السعيد:
يدور جدل في الأوساط السياسية اللبنانية بخصوص تحديد شاهد الزور من الناحية القانونية، وما إذا كان يتعين لاعتبار الشخص شاهد زور ان يكون قد حلف اليمين امام إحدى الجهات القضائية، على نحو لا يصح معه اعتباره شاهد زور، إذا لم يكن قد فعل ذلك، ويتفرع عن هذا النقاش جدل آخر بخصوص ما إذا كان القضاء اللبناني مختصاً بالتحقيق مع شهود الزور الذين أدلوا بشهاداتهم امام لجان التحقيق الدولية المتفرعة عن المحكمة الجنائية الدولية المشكلة من قبل مجلس الامن الدولي لمحاكمة قتلة الشهيد رفيق الحريري، الامر الذي دعاني كرجل قانون متخصص في القانون الجنائي، ان أدلي بدلوي في هذه المسألة بشكل مهني بعيداً كل البعد عن التجاذبات السياسية.
إذا ما بدأنا من البداية كما يقول الفرنسيون، فإننا نعترف بأن قوانين اصول المحاكمات الجزائية في جميع الدول العربية، قد أوجبت تحليف الشهود اليمين قبل الإدلاء بأقوالهم أمام الجهات القضائية المختلفة، ومن بين هذه القوانين بطبيعة الحال قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني، حيث أوجبت المادة (87) من هذا القانون على قاضي التحقيق ان يحلّف الشاهد اليمين الآتية &laqascii117o;أقسم بالله العظيم بأن أشهد بالحق كل الحق ولا شيء غير الحق" وكذلك أوجبت المادة (181) من ذات القانون على القاضي المنفرد في اجراءات المحاكمة والتثبت من أدلة الدعوى ان لا يستمع إلى الشاهد الذي يرى فائدة من سماعه إلا بعد تحليفه اليمين الآتي &laqascii117o;أقسم بالله العظيم بأن أشهد الحق ولا شيء غير الحق" وفي هذا المعنى جاء نص المادة (248) من القانون المنوه عنه أعلاه ليلزم محكمة الجنايات بأن لا تسمع إلى الشهود إلا بعد تحليفهم اليمين القانونية. وقد يفهم للوهلة الأولى مما تقدم بأن الإدلاء بالأقوال امام قضاة التحقيق والمحاكم لا يصدق عليها وصف الشهادة ما لم تكن مسبوقة بحلف اليمين، إلا إذا تم السماح قانوناً للشخص بالإدلاء بأقواله من دون حلف اليمين، وتطبيقاً لهذا نصت المادة (91) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني على ما يلي:
يستمع قاضي التحقيق إلى القاصرين الذين لم يتموا الثامنة عشرة من عمرهم على سبيل المعلومات، إذا كان القاصر الذي يتجاوز الخامسة عشرة من عمره قد حلف اليمين القانونية فلا تكون إفادته باطلة ولا يلاحق بجريمة شهادة الزور، يمنع من الشهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته وأصهاره الذين هم من درجة الأخوة وزوجته ولو بعد الطلاق والمخبرون الذين يمنحهم القانون مكافأة مالية على الاخبار، لقاضي التحقيق ان يستمع إلى كل من هؤلاء على سبيل المعلومات، كما نصت المادة (248) من ذات القانون كما سبق ان ذكرنا، يتعين على رئيس محكمة الجنايات سماع الشهود بعد تحليفهم اليمين ما لم يعترض احد الفرقاء في الدعوى على سماع بعضهم لسبب قانوني فيقرر صرف النظر عنه أو سماعه على سبيل المعلومات...الخ".
هذا من ناحية ضرورة تحليف الشاهد اليمين القانونية قبل الإدلاء بشهادته. ولكن هل هناك تلازم بين حلف اليمين في قوانين اصول المحاكمات الجزائية وبين قيام جريمة شهادة الزور في قوانين العقوبات المختلفة، على نحو لا تقوم هذه الجريمة من دون حلف الشاهد لليمين؟ لا بد من القول بأن التشريعات الجزائية في العالم لم تتواضع على ذلك، فمن اعتبر شهادة الزور جريمة ضد الذين اشترط ان تكون الشهادة قد أديت بعد حلف اليمين، فلفظ او حلف اليمين في ذاته ينطوي على معنى ديني، يقوم على الاعتقاد بأن من يحنث في يمينه، يتعرض لغضب الله ونقمته، ومن اعتبرها جريمة ضد العدل لم يشترط حلف اليمين، وإنما اعتبر حلف اليمين مجرد ظرف مشدد.
ويترتب على اشتراط حلف اليمين لقيام الجريمة، ان الشاهد الذي يسمع بغير يمين سهوا من قاضي التحقيق او المحكمة، او إذا سمع على سبيل الاستدلال لأنه لم يبلغ سن الرابعة أو الخامســة عشـرة او الثامنة عشرة من عمره على اختلاف في القوانين فيما بينها، او لأنه محكوم عليه بعقوبة جنائيـة وتعمد الكذب في أقواله، أفلت من عقوبة شهادة الزور، مع ان أقواله تؤثر في أذهان القضاة، حيث يصح ان تبنى عليها الأحكام ولو خالفت الشهادات التي أديت في نفس الدعوى بيمين، وهو وضع مؤسف على ما لاحظه المرحوم الاستاذ أحمد أمين، اول شارح لقـانون العقوبات المصري، واقترح علاجاً لذلك، احتذاء حذو التشريعات الأجنبية الايطالية والبلجــيكية التي جعلت الفعل من دون حلف اليمين ضمن افعال شهادة الزور، مع جعل العقوبة مخففة. فهل اعتبر المشرع الجزائي اللبناني الحنث باليمين جريمة ضد الدين ام جريمة ضد العدل؟ ان الإجابة على هذا السؤال تقتضي الوقوف على نص المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني في مقام تحديدها لتجريم شهادة الزور في قولها:
&laqascii117o;من شهد امام سلطة قضائية او قضاء عسكري او إداري فجزم بالباطل او أنكر الحق او كتم بعض او كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات. إذا أديت شهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي او محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر.
وإذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام او بعقوبة مؤبدة فلا تنقص الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن إبلاغها إلى خمس عشرة سنة، إذا كان قد استمع من دون حلف اليمين خفض نصف العقوبة.
مما تقدم فإننا نخلص إلى ان قانون العقوبات اللبناني يعتبر الشخص شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين القانونية استناداً إلى الحجج التالية:
1ـ إن المشرع الجزائي لم يشترط صراحة او ضمناً في المادة (408) من قانون العقوبات التي تجرّم شهادة الزور ان يكون الشخص قد حلف اليمين أمام السلطات القضائية او ما في حكمها من السلطات الأخرى، وإنما يكفي ان يكون قد جزم بالباطل او أنكر الحقيقة كلياً او جزئياً.
2ـ إن المادة (408/2) من قانون العقوبات اللبناني كانت صريحة في الفقرة الأخيرة منها على اعتبار الشاهد الذي يحنث بيمينه شاهد زور، ويعاقب على هذا الأساس، حتى ولو لم يحلف اليمين لأي سبب، فالنص جاء مطلقاً والقاعدة ان المطلق يجري على إطلاقه ما لم يتم تقييده. وبعبارة أخرى فإن المشرع الجزائي اللبناني لم يقيد قيام جرم شهادة الزور بأي قيد كحلف اليمين، غاية ما في الأمر انه خفض العقوبة إلى النصف في حالة عدم حلف اليمين، أي انه اعترف له بعذر قانوني مخفف من دون ان ينفي قيام شهادة الزور علماً بأن المادة (82) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني قد أشارت إلى بعض حالات سماع بعض الشهود من دون حلف اليمين في قولها &laqascii117o;لا تقبل مبدئياً شهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته ومن هم في درجتهم عن طريق المصاهرة والزوج والزوجة حتى بعد الطلاق، يمكن للقاضي سماع شهادة أي من هؤلاء إذا لم يعترض عليها المدعي الشخصي او المدعى عليه ولا تكون باطلة شهادة هؤلاء، غير ان اعتراض احدهما على سماعهم لا يمنع القاضي من ان يسمع على سبيل المعلومات.
لا تقبل شهادة القاصر الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره الا على سبيل المعلومات.
لا يسمع من كان دون السابعة من عمره الا على سبيل المعلومات وبقرار مطلق.
3ـ ويتصل بما تقدم ان المشرع الجزائي اللبناني قد أبقى على هذا الشخص صفة شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين ـ والفرض ـ لأسباب قانونية، غاية ما في هذا الأمر انه خفض العقوبة عليه إلى النصف، ألا يعتبر من لا يحلف اليمين لأسباب غير قانونية مرتكباً لجريمة شهادة الزور.
4ـ لم يعلق المشرع الجزائي اللبناني قيام جرم شهادة الزور والعقاب عليه على اقتناع السلطة القضائية بما ورد في هذه الشهادة والحكم بالاستناد إليها، حيث يتم العقاب وحتى ولو لم تقتنع المحاكم بها او تستند إليها في احكامها، وانما تسلم بقيامها وفرض العقاب عليها حتى ولو لم يترتب عليها الحكم بالإدانة ما دام ان العدالة قد تأذت، وبعبارة أخرى ما دام ان الضرر الذي لحق المشتكى عليه كان ناجماً عن عدم تحقيق العدالة، وكلما كان المساس بالعدالة أجسم والضرر أشد تبعاً لذلك، كلما كانت العقوبة هي الأخرى أشد وأغلظ، مما يدل على ان الهدف من حلف اليمين هو تحقيق العدل ومنع وقوع الضرر، وما نقول به جسدته المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني.
وبعبارة أخرى اعتبر عدم حلف اليمين عذراً قانونياً مخففاً، في حين يعتبر حلفه اليمين مع الحنث به جرماً تقوم به شهادة الزور لمساسه بالعدالة متى توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة (408) من قانون العقوبات من باب أولى، وأما الضرر فيشكل ظرفاً مشدداً كأثر المساس بالعدالة.
(للبحث صلة)
[ أستاذ الدراسات العليا لقانونَي العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية/ كلية الحقوق، الجامعة الأردنية ـ عضو محكمة التمييز سابقاً.
ـ 'السفير'
كفاكم لعباً بمصير البلد
خالد حدادة:
من يتابع تصريحات &laqascii117o; قادة البلاد" السياسيين والدينيين خلال الأسبوعين الماضيين يخال أن، أنواعاً من السلاح، تجول في شوارع بيروت والناس تفر منها، فاصطدمت البنادق والرشاشات وقذائف الآر. بي. جي، في برج أبي حيدر لتحدث قتلى وجرحى ودماراً دفع الشجعان من أبطال الثورات الملونة للدعوة للتكاتف لملاحقة سلاح الآر. بي. جي ومتمردي الكلاشينكوف الذين يعيثون فساداً في شوارع بيروت. أيها الساسة، أيها النواب، يا رجال الدين الكرام، كفاكم لعباً بمصير البلد واستهتاراً بعقول اللبنانيين.
منذ عشرات السنين وأنتم تتوارثون المهمة، تعميق الشعور بالانتماء الطائفي وإلغاء الانتماء للوطن، وجعل اللبنانيين قبائل يتناحرون بها، خدمة للخارج وبشكل أساسي خدمة للمشروع الأميركي الصهيوني، وتتفقون عليها عبر الاتفاقات الدورية العربية الرعاية على تقاسم الوطن وإلغاء هويته منذ عهد &laqascii117o; الاستقلال" حتى اليوم، إذ أن الحروب الدورية بين جمهورياتكم وإماراتكم المتعايشة لم تكن يوماً وليدة السلاح، بل السلاح تستقدمونه خلال أيام وساعات عندما تحتاجونه وتغذونه بدماء اللبنانيين وجراحاتهم وعذاباتهم، مستغلين غرائز بعضهم، وفقرهم وجوعهم لتعزيز هذا الاتجاه.
لطالما حذرنا من أن الفتنة تشكل أداة رئيسية من أدوات العدوان الأميركي – الاسرائيلي، وهي فتنة متعددة الرؤوس من المحكمة الدولية الى صراعات الزواريب وتناقضاتها، فتنة ترتكز بشكل رئيسي الى طبيعة النظام اللبناني المولد للحروب الأهلية ولأشكال التبعية للخارج وأكدنا أن هذه الفتنة، في الظروف اللبنانية الحالية، لا تحتاج من هذا المشروع الى جهد كبير، فالقوى السياسية (الموجودة في حكومة البلد) قادرة على تحريك الشارع باتجاهها في أية لحظة، والحكومة اللبنانية عاجزة (وهي غير راغبة) عن مواجهة أسباب هذه الفتنة وعن منع الوصول لها.
ولم يتأخر التأكيد، فبعد ساعات الصدام (التجريبي ربما) الذي جرى في برج أبي حيدر، تسارعت المواقف السياسية التي تصب في الاتجاه عينه... والتركيز على السلاح رغم جاذبيته، هو شعار ملتبس حين يطلع علينا البعض (الموجود في الحكومة) في الحكم بأن &laqascii117o;المقاومة لم تعد مقاومة" ولذلك فليسحب سلاحها.... وهنا نسأل هؤلاء إذا كانت &laqascii117o;المقاومة اليوم لم تعد مقاومة"... فلماذا وبإطار أي مشروع كانت دعواتكم السابقة لنزع سلاح المقاومة؟ ومن التداعيات المثيرة للريبة في هذا المجال أيضاً هي الحملة على دور الجيش وعلى الجيش، ودعونا نقول هنا وبكل صراحة، بأن هذه الحملة أيضاً غير بريئة على الإطلاق، أولاً لأن المسؤولين السياسيين في لبنان مدعوين لتخفيف التوتر الداخلي وبالتالي تخفيف احتمالات تدخل الجيش في الصراعات الداخلية وبالتالي التركيز على دوره في الدفاع عن حدود الوطن بوجه العدوان الاسرائيلي. ولسنا مضطرين في هذا المجال للبس الكفوف، بل نقول بصراحة إن هذه الحملة ليست رداً على دور الجيش او تقصيره في أحداث بيروت، بل إن ما نعتقده وما نخشاه بأن تكون هذه الحملة رداً، بمفعول رجعي، على دور الجيش في العديسة وعلى سياسة التسليح التي اطلقت بعدها.
ومن دون قفازات ايضاً، سنتحدث عن الجانب الآخر من المشكلة، متوجهين الى حزب الله تحديداً والى كل قوى المقاومة، بالصدق نفسه الذي تعودوا علينا به.
إن الفتنة يخطط لها طرف واحد ولكن لا يمكن تنفيذها إلا بطرفين.
وهنا لا بد من عودة الى أن قوى الفتنة، تعي تماماً الوجهين المكونين لحزب الله بشكل خاص، اي وظيفة المقاومة الوطنية ودوره الريادي في هذه المرحلة، ومن جهة أخرى بنيته ذات الطابع المذهبي. وأن قوة الحزب هي في الوجهة الأولى والتي من خلالها لا يمكن لأي طرف معاد لهذه الوجهة أن يتوجه لها مباشرة. ولذلك فالتركيز يكون على البنية، وليس على الوظيفة، من أجل ضرب الوظيفة. خاصة أن الآخر يعي أنه لا يمكن الخلاص من البنية في الواقع اللبناني. وهنا فالمسؤولية مضاعفة على من يقود عمل المقاومة في المرحلة الراهنة وهي تحديداً تحدي التخفيف من تأثير البنية، من أجل تقوية موقع الوظيفة وتأكيد مهمة التفاف الشعب اللبناني واحتضانه لهذه الوظيفة ولحاملها في آن معاً.
أما طغيان البنية على الوظيفة، ولو في لحظة انفعال ورد فعل على استفزاز وتحد، فإنه يوقع الحزب في المحظور ويجره حيث لا يشاء من المعارك... وهذا ما يفسر جزئياً ما حدث في برج أبي حيدر وما يدعونا بصدق لدعوة حزب الله لنقاش هادئ لهذا الموضوع بهدف منع ما يمكن ان تحمله البنية من عوامل الدخول في آتون الصراعات الداخلية، منها من الإساءة للوظيفة التي حملتها وتحملها هذه البنية.
فالبنية المذهبية، وخلفيتها الأيديولوجية هي جانب مكون أساسي للحزب، وفي أوقات محددة هي رافد ايجابي من روافد عمله وقيادته للمقاومة. الأساسي هو المشروع الذي يمكن ان يحمله الحزب والمقاومة في الجانب الداخلي، أي في مهامها الداخلية فإذا استمرت البنية جزءاً من التكوين الطائفي للمجتمع اللبناني وداعماً لأساس هذا النظام فلا بد من أن يعي من يقود هذه الوجه