حبيب فياض
يتخطّى الحديث عن أهمية الإعلام دوره في تشكيل الوعي وصناعة الرأي العام، إلى تموضعه في إطار الاصطفافات القائمة تبعاً للانقسامات السياسية والجبهات المستعرة، بحيث أصبح لكل وسيلة إعلامية بعدان تُعرَف من خلالهما، الأول انتمائي يرتبط بالانحياز الى الجهة المؤسسة أو المموّلة، والثاني مهني يتوقف على الالتزام بالموضوعية وأصول المهنة.
غير أن انحياز المؤسسات الإعلامية الذي تمليه ضرورات مالية أو اعتقادية، غالباً ما يغدو عبئاً مهنياً مخلّاً بصدق الخبر ومصداقية الصورة، حيث من المفترض أن يلعب توخي الموضوعية دور التخفيف من خلل الانحياز والتبعية.
فالإعلام لم يكن يوماً بمنأى عن استهداف الخصوم. بيد أن ثمة فرقاً بين أن يكون مستهدفاً لأنه خصم منحاز أو أن يكون كذلك، لأنه خصم موضوعي. من هنا، لا يبدو قرار المملكة العربية السعودية إخراج الميادين من القمر الصناعي &laqascii117o;عرب سات"، مرتبطاً بانحيازها بل بموضوعيتها. ذلك أن الانحياز أقل خطورة على الخصوم، وأضعف تأثيراً على الرأي العام. بينما تشكل الموضوعية عامل جذب للمتلقي، على قاعدة الرغبة في معرفة الحقيقة والإطلاع على الواقع كما هو.
لقد نجحت الميادين في الاستعاضة عن سياسة الإنحياز بمبدئية الالتزام، من خلال التمييز بين الأزمات والقضية. الأزمات بالعموم هي مشاريع فتنة وحروب داخلية، بينما القضية هي فلسطين وكل ما يتصل بها. الميادين في الأزمات أقل انحيازاً وأكثر موضوعية، ولكنها في القضية الفلسطينية تزاوج دوماً بين التزام لا ينتهي وموضوعية تعكس الواقع من دون زيادة أو مبالغة. وذلك مقابل غياب فلسطين عن وسائل الإعلام الأخرى التي دأبت على النفخ في رماد الأزمات.
لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الخبر أو صناعة الحدث، بل بات عنصراً أساسياً في صياغة الهوية وتثبيتها. أزمة الميادين أنها تحاول تصحيح مفهوم الهوية وإعادة صياغتها على ضوء تعويم ثقافة الوحدة والاعتدال الديني وقضية فلسطين، إزاء الإعلام الآخر الذي نجح نسبياً في اختراق الهوية العربية، ووضعها في خانة بث الكراهية والتحريض على التطرف الديني والتقاتل المذهبي والتحارب الشعوبي.
كما لا يبدو أن الأسباب السياسية وحدها هي التي تقف خلف العدوان السعودي على قناة الميادين، بل بالتأكيد هنالك أسباب مهنية. فالقناة أثبتت أنه يمكن الارتقاء بالعمل الإعلامي نحو الأفضل خلال فترة قياسية، وفي ظل إمكانيات مادية متواضعة. وهي في الوقت نفسه فضحت من خلال أدائها، ومن دون قصد ربما، كيف أن الإعلام الآخر قد تحوّل وسيلة لهدر الأموال الطائلة بعدما بلغ منتهى الانحدار المهني والأخلاقي.
في المواجهة بين السعودية والميادين، وضعت المملكة نفسها في خانة الضعيف الذي بالغ في استخدام ما لديه من احتياط القوة. فيما فاقم إسقاط الميادين من &laqascii117o;العرب سات" من قوتها وأهميتها. فالمنع الذي تعرّضت له هو فعل آخر يُضاف إلى إنجازاتها، كما أن الحملة التي ووجهت بها هي انتصار لمنطق &laqascii117o;من ليس ضدنا فهو معنا وصديقنا" على منطق &laqascii117o;من ليس معنا فهو ضدنا وعدونا".
يقال بأن تلميذ ابن رشد بكى بينما كان العرب يحرقون كتب معلمه، فالتفت إليه الأخير قائلاً: &laqascii117o;إذا كنت تبكي حال المسلمين، فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكي الكتب المحروقة فإعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها".
للميادين جناحان، هما الالتزام والموضوعية، وبإمكانها التحليق بهما في فضاء الوعي العربي بعيداً عن قمر العرب الصناعي.
المصدر: صحيفة السفير