تلفزيون » قناة الميادين ولعنة التأريخ

أيمن عقيل

مجدداً، حاول أحد ما أن يؤرّخ للحرب اللبنانية. هذه المرة كان الدور على قناة الميادين عبر سلسلة حلقات عرضت على شاشتها من إعداد الإعلامي رفيق نصرالله. في الأمر شجاعة وربما مغامرة، شجاعة لم تمتلكها وزارة التربية اللبنانية التي، للآن، لم تنجح في إخراج كتاب تاريخ مدرسي يُعنى بتأريخ الأحداث اللبنانية، حتى تلك التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل 1975. لا غرابة، فالتاريخ في لبنان إشكالية قديمة ولوثة مقاربته مثار جدل لا ينضب.
معلوم أن ممارسة فعل التأريخ تتطلب أن يكون الموضوع المطلوب تأريخه تاريخاً وليس راهناً. بمعنى أن الأحداث تجاوزته وأن قيمته تكاد تكون معنوية فقط. والحال أن أسئلة الحرب الأهلية اللبنانية هي جزء أصيل من المشهد اللبناني الراهن، وبالتالي فإن هذه الأحداث ليست تاريخاً، بل هي أقرب إلى أن تكون ماضياً حياً للحاضر، قريباً أو بعيداً. حقيقة الانتماء السياسي الواضح لمعد الوثائقي تزيد الأمر تعقيداً، لأنه ليس باحثاً أكاديمياً أو مؤرخاً محايداً على سبيل المثال، ما يمنح قلق المراقبين من تجيير هذا الماضي القريب لمصلحة مشروع سياسي راهن وجهة ما.
تعتبر أمجاد الماضي في الحياة السياسية اللبنانية من الأصول الأساسية للنفوذ الشعبي للأحزاب. بإمكانك بين الفينة والأخرى أن تقع مثلاً على مناصرين متحمسين لحزب &laqascii117o;النجادة" يعيشون في تجويف زمني ما، وينعمون بدفء الانتماء لأمجاد هذا الحزب. ليس مهماً أن يشبه حزب تاريخه الخاص، المهم أن يمتلكه وأن يحوز شرعية حصرية للنطق به. يغدو هذا التاريخ كأنه شقة سكنية أو عقار تنتقل ملكيته بالوراثة.
في التفاصيل، أغضب هذا الجهد الجميع تقريباً. شعر مناصرو &laqascii117o;حركة أمل" أن دورها غُيّب خلال انتفاضة 6 شباط وفي محطات أخرى، أمّا مناصرو الأحزاب الوطنية فلم يعجبهم مصادرة رفيق نصرالله إنجازاتهم التاريخية في تسطير انطلاقة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. اللافت أن هناك من رأى في حلقات لاحقة محاولة تصحيحية للاستجابة لانتقادات شعبية طالت حلقات سابقة، فغدت هذه الحلقات خاضعة لسوق العرض والطلب، في الوقت الذي من المتوقع أن يكون المحتوى خاضعاً حصراً للأمانة البحثية التي لا تعرف المجاملة.
المفارقة أنه عندما تتصدّى جهة ما لإنتاج وثائقي، فإنه من المتوقع أن تبادر إلى توثيق المرحلة لا سردها فقط. سيعني ذلك ممارسة فعل البحث النقدي الرصين، وليس فقط نقل وجهات نظر أطراف لهم مصلحة واضحة في سردها بطريقة ما تتوافق مع ميولهم. بالطبع، هناك من سيسأل عن ماهية هؤلاء الأكاديميين الذين من المفترض الركون إليهم في بلد لا يوجد فيه مراجع متفق عليها في القانون الدستوري مثلاً، بحيث إن لكل معسكر فقهاؤه الدستوريون الخاصون. يتركنا هذا النقاش عند إمكانية تطعيم المحتوى عبر الاستعانة بالآخرين لكي يسردوا لنا تاريخنا الخاص.
نقاش التاريخ ليس محسوماً عالمياً، ومقولة أن التاريخ يكتبه المنتصرون ما زالت صالحة. ولكن الأمر أن تاريخنا يتناتشه المنتصرون في ما بينهم بهدف تسطيح ما فيه من تعقيد لإصدار رواية رسمية نظيفة، تشكل هذه الممارسة انتهاكاً لا يغفر لمجموعة من الدروس الحضارية لا بد أن يخرج بها الجيل الحالي. التاريخ أكثر قداسة من أن يتحول إلى رصاصة في بندقية، حتى تلك التي تطلق النار في الاتجاه الصحيح.

المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد